تكمن قوة العمارة في وجود نواة مولّدة لها، لكن ليس بالضرورة أن تصنع الأشكال نفسها التي صنعتها في الماضي.. القوة التي تملكها الثقافة السعودية الراسخة والمتجددة في الوقت نفسه والتي يحملها كل سعودي هي مجال الرهان الأهم الذي يمكن أن يجعل جميع الرسائل التي ستقدمها عمارة كأس العام 2034 مؤثرة وتصنع صورتنا الجديدة والمختلفة لدى العالم.. الأربعاء الفائت يوم تاريخي بالنسبة للسعوديين، وسوف أعتبره كذلك تاريخيا بالنسبة للمعماريين السعوديين، فتنظيم كأس العالم هو حلم كثير من الدول، وفرصة كبيرة للعمرانيين أن يسهموا بشكل كبير في إعادة صياغة كثير من مبادئ العمارة والتصميم الحضري. كتبت في السابق عدة مقالات عن "عمارة كأس العالم" وركزت على مسألة "الرسالة" التي يمكن أن تقدمها العمارة للعالم من خلال تجمع دولي هو الأكبر على الإطلاق. فماذا يمكن أن تقدمه السعودية للعالم في 2034م؟ وهذا السؤال يتضمن ماذا نقدم الآن للعالم؟ فالمملكة بدأت خطوات واسعة نحول تحقيق فكرة "فكر كونيا وأعمل محليا" وها هي الفرصة الكبيرة قد أتت لتقديم قيمنا ومبادئنا وأفكارنا المحلية للعالم. في البداية دعوني أشير إلى أننا سنمر بمراحل تنظيمية عالمية قبل كأس العالم، ففي عام 2027م ستنظم المملكة كأس آسيا وبعدها يجب أن نستعد لإكسبو عام 2030م وهو حدث عالمي، لا يقل أهمية عن تنظيم كأس العالم الذي يعتبر هو الحدث الأكبر. نحن أمام عقد مفتوح على العمارة والتطوير العمراني، ومن المتوقع أن يكون لهذا "العقد العمراني" تأثير عميق على شكل المدينة السعودية وبنيتها التحتية والفوقية. إحدى أبرز الرسائل التي يمكن تمريرها خلال هذا العقد العمراني هي "السعودية الخضراء"، والمفاهيم المرتبطة بها مثل الاستدامة والطاقة النظيفة والبيئة الخالية من الانبعاثات الكربونية، العمارة السعودية لملاعب كأس العالم يفترض أن تحمل هذه المبادئ التي أعلن عنها سمو ولي العهد -حفظه الله- في أكثر من مناسبة. يبدو لي أن هذه المبادئ ترتبط بخلق ثقافة سلوكية عامة تتعامل مع البيئة بعقلية مستدامة، في اعتقادي أن أولى خطوات تحقيق رسالة السعودية الخضراء تبدأ مع خلق العقل السلوكي الأخضر الذي يجعل من الناس "تتخلّق" بالفكر الأخضر الذي يحافظ على البيئة والموارد والممتلكات العامة، يكمن التحدي الأكبر في خلق هذا "العقل الأخضر"، ربما أكثر من بناء الملاعب الرياضية التي يفترض أن تدعم هذا العقل وتشجعه على ممارسة السلوك الإيجابي في المحيط البيئي، ربما سمع الجميع عما حدث في المسار الأزرق في مترو الرياض الذي افتتح مؤخرا، وطبعا لا أقصد أن العقل الأخضر يفترض أن يمنع البعض عن تخريب الممتلكات العامة (التي هي ملك للجميع بمن فيهم المخربون)، لكنه يفترض أن يخلق بيئة سلوكية عامة تحث على التفكير دائما في "حد الكفاية" الذي يجعل الإنسان عضوا إيجابيا في محيطه العمراني، يأتي مع صناعة الوعي لبناء عمارة خضراء وبنية تحتية وفوقية مستدامة، السعودية الخضراء، كما أعتقد، هي الرسالة الأهم التي يفترض أن يقدمها السعوديون للعالم في نهاية العقد العمراني. الرسالة الثانية تكمن فيمن نحن، فكيف سنقدم ثقافتنا المحلية معماريا؟ هل سننسخ عمارتنا التاريخية ونركبها على واجهات الملاعب الرياضية التي سننشئها من أجل تنظيم كأس العالم أم ماذا سنفعل؟ يبدو لي أن هذا السؤال الصعب يفتح مساحة واسعة للجدل حول ماهية العمارة التي نريدها لأنفسنا ونرغب في تقديمها للعالم، وبالتأكيد "العقد العمراني" الذي نبدأه هو فرصة مهمة لمراجعة العمارة السعودية وتجاربها السابقة، ويمكن أن تكون فرصة كذلك لخلق مفاهيم راسخة حول ماهية العمارة السعودية في المستقبل القريب. يكمن الجدل حول فكرة "المحلية" التي تدعو لها العمارة في هيمنة الشكل البصري على ما سواه، فالمحلية تعني لكثير من الناس ترجمة الهوية التاريخية بشكل أو بآخر في الاشكال المعمارية التي يفترض أن تحملها الملاعب الرياضية، حتى لو كانت هويتها الحالية لا تدعم هذا الارتباط ولا تحبذه. التعلق بالماضي يمثل جزءا أساسيا في تعريف الهوية لدى البعض، وهذا يلغي بشكل أو بآخر فكرة "الابتكار" التي تُعنى بها العمارة وإن كانت تحقق "الاستمرارية" التي يراها البعض هي الأهم. في الحقيقة أن رسالة المحلية ستحدد إلى أي درجة استطاعت العمارة السعودية تخطي النهايات المغلقة التي يفرضها التاريخ والارتباط بالماضي والتحول إلى المحلية مفتوحة النهاية التي تجعلنا نكتشف قوة الجغرافيا التي نملكها ونجعلها مصدرا للإلهام المتجدد. تكمن "قوة الجغرافيا" في المكان والموارد والناس والمناخ، وهي قوة تصنع "كل العمارة" إذا ما أحسنا التعامل معها. ويمكن أن أقول إن الرسالة الثالثة تكمن في الإنسان السعودي وثقافته، قد تكون الفرصة هنا متاحة لتقديم الثقافة السعودية بمفهوم "الاستمرارية"، استمرارية القيم والتقاليد وكثير من المظاهر الاجتماعية، لكن في قالب "المجتمع الذي يتطور باستمرار"، ويبدو لنا أن هناك مجالا للمقارنة بين الثقافة العامة التي يمارسها الناس بشكل عفوي وما يجب أن تكون عليه العمارة السعودية لكأس العالم، تكمن الثقافة الراسخة وممارستها العفوية في وجود النواة المولّدة لها التي لا تحصرها في مظاهر شكلية سطحية، فلا نستطيع أن نقول إن المجتمع السعودي لا يمارس كثيرا من عاداته وتقاليده التاريخية ولكن ليس بالضرورة أن يمارسها بنفس الأشكال القديمة. كذلك العمارة تكمن قوتها في وجود نواة مولّدة لها، لكن ليس بالضرورة أن تصنع الأشكال نفسها التي صنعتها في الماضي.. القوة التي تملكها الثقافة السعودية الراسخة والمتجددة في الوقت نفسه والتي يحملها كل سعودي هي مجال الرهان الأهم الذي يمكن أن يجعل جميع الرسائل التي ستقدمها عمارة كأس العام 2034 مؤثرة وتصنع صورتنا الجديدة والمختلفة لدى العالم.