من مهام المخططين العمرانيين استشراف المستقبل وتحديد الإشكالات الأكثر تأثيرًا التي يجب أن تحظى بأولوية في التعامل معها، وفي اعتقادي أن بداية تشغيل المترو فرصة سانحة للتفكير في إدارة عمران الرياض بطريقة مغايرة، وتوجيه مجالات التطوير فيها نحو نقاط الجذب في المترو، وتعزيز الشبكات الداخلية في الأحياء السكنية التي ستجعل من نقاط الجذب ناجحة.. المراهنات حول المترو، خصوصا في مدينة الرياض، متعددة الجوانب، فهل سيسهم هذا المشروع العملاق في حل جزء من مشكلة الازدحام المروري الذي تعاني منه المدينة؟ وهل سيعيد لها بعض حيويتها التي بدأت تتقلص نتيجة الانتظار الطويل للعربات في الطرقات وحالة التململ التي بدأت تظهر على الناس من خلال تعليقاتهم، الكوميدية أحيانا، في وسائل التواصل الاجتماعي حول هذه الظاهرة المزعجة وكأنهم يتحدثون عن "كوميديا سوداء" تعيشها الرياض، ولا أحد لديه القدرة على إيجاد حلول لها. يأتي تدشين خادم الحرمين -حفظه الله- قبل أيام لبدء تشغيل "المترو" كبارقة أمل لفتح شريان جديد لإعادة الحيوية للمدينة التي بدأت تكتظ إلى درجة بلوغ حالة من الشلل في بعض أوقات اليوم. الدراسات تقول إن 35 % من السكان عازمون على استخدام المترو في تنقلاتهم اليومية، وإذا صدقت هذه الدراسات فهذا يعني أن نسبة معتبرة من المشكلة المرورية قد تتراجع. بالتأكيد سيصاحب تشغيل المترو بعض المشكلات وسيتم اكتشاف بعض القصور هنا وهناك، لكنها مشكلات يمكن تجاوزها ففي كل مشروع عملاق هناك بعض التأثيرات الجانبية التي تظهر أثناء تشغيله ويتم تجاوزها مع الوقت. مترو الرياض ليس فقط مشروع نقل عام كبير، بل هو مشروع عمراني غير مسبوق يبني خارطة ذهنية جديدة للمدينة لكنه كذلك يعيد تشكيل خارطتها الاجتماعية والاقتصادية، هذا التأثير العميق تناولته في مقالتين سابقا، الأولى كانت طويلة ونشرت في مجلة الفيصل عام 2017م، وكانت تركز على تاريخ نشأة المترو والكيفية التي غير بها شخصية المدن المعاصرة في العالم مع التركيز على مترو الرياض كحالة خاصة، المقال الثاني نشر في هذه الصحيفة الغراء عام 2019م وتناول التأثير البصري للمترو على الشكل العمراني في المدينة، وكانت الأسئلة التي طرحها المقال هي: هل نحن أمام هوية عمرانية جديدة لمدينة الرياض، خصوصا "الهوية البصرية"، فكما هو معروف مسارات المترو ساهمت في خلق طبقات من التعقيد البصري لمدينة الرياض ونقلت الصورة الذهنية السابقة إلى مستوى جديد، كما سيكون لهذه المسارات تأثير كبير على القرارات العمرانية في المستقبل، أي أن تطور الشكل العمراني الطبيعي للمدينة سيخضع بشكل مباشر لنقاط الجذب الرئيسة التي أحدثتها تلك المسارات وسيتحلق العمران والأنشطة المصاحبة له حولها، لكن في نفس الوقت سيتجنب النشاط العمراني المسارات التي تحدث ازدحاما بصريا، فالطبيعي أن كل عمران ناجح يحتاج إلى أن يكون مُشاهدا ويصطدم بعيون الناس، وكلما كان الفضاء مزدحما ومعقدا قلت هذه الرغبة وقل معها النشاط العمراني. حسب الخطة الأساسية للمترو، من المتوقع أن يمتد تأثيره إلى داخل الأحياء السكنية، فكما هو معروف كل وسيلة نقل تبدأ من مكان وتنتهي في مكان آخر في حركة دائرية، لذلك ليست العبرة في وجود المحطات النهائية التي سيوصل لها المترو، وإن كانت محطات رئيسة، لكن المهم كيف سيبدأ الناس رحلتهم للوصول لها، وهذه المسألة هي التي ما زالت عالقة من وجهة نظري، فكيف سيصل ساكن الرياض إلى نقطة البداية التي منها سينتقل عبر المترو دون أن يستخدم عربته الخاصة. عندما ذكرت تأثير المترو على الأحياء السكنية، كنت أقصد كيف ستتهيأ تلك الأحياء لإتاحة المجال لسكانها للمشي إلى محطات الباصات ومن ثم إلى نقاط الانطلاق عبر المترو، هذا يعني إعادة التفكير في البنية الحركية لجميع أحياء الرياض على مستوى حركة المشاة والتشجير وخلق الفضاءات المُظللة. أحد التعليقات الظريفة التي وصلتني هي: رغم أن المترو يبدو مشروعا طاغيا ومهيمنا ويسهم في تجزئة المدينة إلى أوصال، إلا أنه قد يساهم بشكل كبير في أنسنة الأحياء السكنية وإعادة ربطها عبر شبكة مسارات المشاة والنقل الثانوي الذي يفترض أن يرتبط بمحطاته. هذا التعليق، رغم تكوّنه من قطبين متناقضين من الناحية العمرانية بين التجزئة و"التفكيك" الذي يمكن أن يحدثه المترو للمدينة وبين "الربط والانسجام" والتناغم والأنسنة الذي يفترض أن تتطور نتيجة له يؤكد أنه لا يوجد مشاريع عمرانية كبرى على هذه الأرض لا تجتمع فيها الإيجابيات والسلبيات في آن واحد. انطلاق رحلة المترو في الرياض يعد بكثير من التجارب والدروس، وبلا شك يعد بتفكير مختلف لإدارة عمران المدينة، فالرياض مدينة مترامية الأطراف وقد تحتاج وقفة طويلة مع إدارة العمران، فلا ضير أن نتعلم مما سيمليه علينا المترو بمساراته وتأثيراته العميقة التي ستتسلل حتما إلى نقاط عميقة داخل النسيج العمراني في الرياض، هذا التسلل ليس بأيدينا إيقافه، لكن يمكن إدارته والتفكير فيه مسبقا، من مهام المخططين العمرانيين استشراف المستقبل وتحديد الإشكالات الأكثر تأثيرا التي يجب أن تحظى بأولوية في التعامل معها، وفي اعتقادي أن بداية تشغيل المترو فرصة سانحة للتفكير في إدارة عمران الرياض بطريقة مغايرة وتوجيه مجالات التطوير فيها نحو نقاط الجذب في المترو وتعزيز الشبكات الداخلية في الأحياء السكنية التي ستجعل من نقاط الجذب ناجحة. يمكن أن نقول إن المترو يمكن أن يخلق تفكيرا جديدا في إدارة العمران، وهذا ليس خيارا بل هو حالة تشبه الفرض، لأنه مشروع يخترق أوصال المدينة ويؤثر في كل جزء منها ويجعل سكانها وزوارها مرتبطين به، وهذا يتطلب حتما تفكيرا عمرانيا مغاير لما سبقه، نحن موعودون بتغيرات كبيرة في المستقبل القريب ستشهدها الرياض ونتمنى أن تسهم هذه التغييرات في إعادة الحيوية للمدينة وأن تعيد ربط جميع أجزائها في تشكيل عمراني يسمح للجميع بالتنقل راكبا أو راجلا دون وجود أي عوائق.