من أجمل اللحظات تلك التي تتجاذب فيها أطراف الحديث مع أحد الزملاء أو الخبراء، بعيداً عن رسميات الجلسات الحوارية والعروض التقديمية، في زوايا الفعاليات والأروقة، حيث يسود الجو غير الرسمي وتصبح الكلمات أكثر عفوية وعمقاً، وتتاح لنا في مثل هذه المساحات أن نكتشف جوانب خفية من شخصيات الآخرين، ومواقفهم الصريحة تجاه قضايا لم يكن ليُفصحوا عنها في إطار رسمي. وقد أتيحت لي الفرصة خلال فعاليات النسخة الثانية من منتدى النقد السينمائي الأخير، الجلوس على انفراد مع عدد من الكتاب والمخرجين للتعرف على رؤيتهم حول عدد من الموضوعات ذات الصلة في المجال السينمائي والصحافي، وبما أن المناسبة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالنقد كان لا بد أن يستأثر بالنصيب الأوفر من هذه الأحاديث الجانبية. كان أغلب النقاش حول كيفية نشأة الصداقة ما بين النقاد والسينمائيين من المخرجين والممثلين والكتاب وغيرهم من المنتمين للمجال، وكانت الردود والإجابات متفاوتة بين فريق متقبل ومرحب بالأراء المختلفة، على الرغم من قسوتها أحيانا، إذ يشكل ذلك بحسب وجهة نظهرهم حافزاً دائماً لتطوير الأدوات لديهم، فالنقد ليس مجرد رأي عابر بل هو مرآة يرى فيها المبدع انعكاساً حقيقياً لعمله بعيداً عن أي مجاملة أو تحيّز، كما يعد فرصة للنمو واكتشاف الأبعاد التي ربما يغفل عنها البعض في أعمالهم. فيما ذهب الرافضون لفكرة النقد إلى أنه لا أحد من السينمائيين يتقبل ذلك بصدر رحب لارتباطهم العاطفي بأعمالهم، والتي تمثل في الغالب أفكارهم وتجاربهم الشخصية، فبالتالي فإن أي نقد لهذه الأعمال قد يشعرهم بأنه هجوم شخصي عليهم، وليس على العمل الفني بحد ذاته، عطفا على أن النقد قد يؤثر على الصورة العامة للمخرج أو الكاتب أو الممثل، خصوصا إذا صدر ذلك من ناقد ذي تأثير واسع، مما قد يؤثر تأثيرا سلبيا على سمعتهم ومسيرتهم الفنية. وكان من أبرز ممن تطفلت عليهم أثناء هذه المناسبة الكاتب والسيناريست صالح فوزان الذي يطلق على نفسه "صديق النقاد" والذي بدوره أثار اهتمامي برأيه في ضرورة وجود النقد البناء، وأن الصداقة مع النقاد هي أحد أركان حياة السينمائي الناجح، هذه الصداقة من وجهة نظره تضمن حواراً دائماً بين الإبداع والتقييم، وتجعل من النقد عملية ديناميكية متجددة، فهو لا يرى أن النقد هجوم شخصي بقدر ما يراه دعوة للتأمل من زاوية أخرى، وتوسيع لحدود التفكير، وأن النقد الفني الجاد حتى وإن كان قاسياً هو بمثابة توجيه نبيل له في مسيرته المهنية. أما من وجهة نظري الشخصية فإنني أرى في النقد السينمائي جانباً ضرورياً للمشهد الفني، فهو لا يعكس فقط وجهة نظر الناقد، بل يلعب دوراً رئيساً في إرساء معايير الجودة والإبداع، ويدفع بصناع الفن إلى تقديم الأفضل وتجاوز المألوف، النقد هو المحور الذي تدور حوله عمليات التقييم والتقويم؛ إنه كالضوء الذي يُسلط على ما يمكن تحسينه وتطويره، هناك من ينظر إلى النقد على أنه مجرد تقييم للعمل، لكنني أؤمن أن النقد الحقيقي هو رؤية فنية عميقة تتجاوز مجرد الرأي، فهو يسهم في تشكيل ثقافة نقدية لدى الجمهور، ويتيح للمبدعين نظرة أكثر اتساعاً وشمولاً تجاه أعمالهم. في المجمل تبقى العلاقة بين المبدع والناقد علاقة خاصة وفريدة فكما أن الناقد بحاجة إلى المبدع ليبرز أفكاره وآرائه، فإن المبدع بحاجة إلى الناقد ليتمم حلقة الإبداع ويمنحه بعداً إضافياً يتخطى حدود النص أو الصورة، إن هذه العلاقة إذا بُنيت على الاحترام المتبادل والرؤية البناءة، ستسهم في إثراء التجربة الفنية للجميع، وتجعل من النقد شريكاً حقيقياً في عملية الإبداع.