ما تخشاه أميركا هو نهج صيني يعتمد تقسيم العالم جغرافيًا واقتصاديًا بعيدًا عن الهيمنة العسكرية، وهذا نهج يصعب على أميركا تقبّله، حيث اعتمدت أميركا خلال تاريخها على منهجي السلطة والنفوذ، فهي ترفض الهيمنة الاقتصادية الصينية على أفريقيا وترفض حضورها العسكري في غرب المحيط الهادئ، فاستراتيجية التجديد تكشف قلقًا أميركيًا حول النظام الدولي الذي يمكن أن تعد به الصين العالم.. قصة الانتخابات الأميركية التي يعيشها العالم اليوم هي مشهد مالوف على المستوى الدولي وسوف ينتهي إلى تنصيب رئيس جديد مهما كانت العقبات والتحديات، ولكن فكرة ما بعد الانتخابات الأميركية في عالم مضطرب هي المنعطف الأهم، فأميركا ووفقا لإستراتيجيتها الخاصة بأمنها القومي قبل عامين قسمت تحدياتها الاستراتيجية الى مجموعتين؛ الأولى خاصة بمنافسة أميركا مع القوى العظمي وتحديات تشكيل النظام العالمي، أما الثانية فترتبط بالتحديات المشتركة مع العالم والعابرة للحدود ومنها مواجهة ازمة تغير المناخ وانعدام الامن الغذائي والامراض المعدية والارهاب ونقص الطاقة والتضخم. عبر هذه التحديات الاستراتيجية يمكن صياغة أسئلة مهمة: هل سوف يستمر العالم في تعطيل ولادة النظام الدولي بعد الانتخابات الأميركية؟ وسؤال آخر يقول: كيف ستبدو العلاقات عبر الأطلسي في ظل حرب اوكرانيا مع روسيا وتنامي الشعبوية في أوروبا وكثير من دول العالم؟ وهل يمكن التنبؤ بصعود الصين كقوة جديدة تسعى لتحقيق الاستقرار في ظل نظام عالمي مضطرب من حيث التحيز؟ وأخيرا وهو ما يهمنا في الشرق الاوسط حول ماذا سوف تكشف عنه الحروب في الشرق الأوسط هل السلام أم الأزمة؟ في حال فوز ترمب فإنه بلا شكل سينفذ وعوده للانقلاب على النظام العالمي الليبرالي، وهو نظام تصفه الدراسات والبحوث بأنه نظام (ضعيف فعليًا وغير شرعي ومتآكل مؤسسياً) وفي ذات الوقت يشكل النظام الليبرالي حجر الزاوية في حماية الهيمنة الغربية التي انتجت الكثير من المشكلات التي يعيشها العالم وخاصة في الشرق الأوسط. في حال فوز الديمقراطيين ستركز إدارة هاريس على معالجة نقاط الضعف التي يواجهها النظام الليبرالي وإعادة التأكيد أن الليبرالية هدف أميركي يساهم في تجاوز التحديات الجوهرية التي خلقها الارتباك الدولي، فالعالم خلال فترة الرئيس بايدن عاش مرحلة ذهبت نحو اتجاه عزز المنافسة الجيوسياسة ليس فقط مع الأقطاب الكبرى في العالم، ولكن حتى مع الأزمات الإقليمية كما هو في الشرق الأوسط وأوكرانيا، هذا التوجه قضى على أي فكرة يمكن أن تأتي بالعالم نحو طاولة التعاون، بهذه الصيغة التي عاشها العالم في زمن الديمقراطيين فقدت التحالفات العالمية شرعيتها وتعرضت لهزات كبرى اقتربت من حافة الهاوية المؤدية إلى المواجهة كما حدث في مرات عديدة في منطقتنا أو مع روسياوالصين. خلال السنوات الأربع الماضية فرضت أميركا مجموعة من التوترات والانقسامات في الجغرافيا السياسية في أجزاء مختلفة من العالم، وأدت في النهاية إلى تعثر فكرة التعاون العالمي لحل الأزمات، وسعت أميركا إلى إعادة تعريف نفسها كقطب متفرد يقبل التعاون الهرمي مع الآخرين وليس التعاون الأفقي، بمعنى دقيق كانت رسالة أميركا للعالم بأنها سوف تتعامل مع القوى الدولية وهي فوق قمة الهرم العالمي، ولكن هذه الفكرة تواجه فكرة أخرى تتمثل في أن بيئة الأمن العالمي اليوم أصبحت معقدة بشكل أكبر مما كانت عليه أيام الحرب الباردة، فخلال ثلاث سنوات مضت شهد العالم حرب أوكرانيا وحرب غزة وكلاهما خلف الدمار والخسائر ومزق كل الفرصة المتاحة للسلام. فيما بعد الانتخابات الأميركية تبدو خيارات التغيير ضيقة جدًا؛ فلن يكون من السهل على ترمب الانقلاب على التاريخ الليبرالي وفقدان مكتسبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما أن فكرة الانزلاق نحو الشعبوية أصبحت أقرب وخاصة مع توسع مصطلح الشعبوية وانتشاره في كثير من دول أوروبا، في المقابل لا تبدو هاريس قادرة على إعادة ترسيخ الهيمنة الأميركية من جديد، فأميركا تواجه الأسئلة المحرجة حول مستقبلها كدولة تعبر عن الحريات، فالعالم تتراجع ثقته وبشكل واضح في الخطاب الأميركي الذي يطالب بعالم يحترم القانون وحقوق الإنسان والحريات، فمنذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم صادرت أميركا هذه الحقوق بنفسها عبر حروبها الواسعة الانتشار. كل ما تخشاه أميركا هو نهج صيني يعتمد تقسيم العالم جغرافيًا واقتصاديًا بعيدًا عن الهيمنة العسكرية، وهذا نهج يصعب على أميركا تقبله، حيث اعتمدت أميركا خلال تاريخها على منهج السلطة والنفوذ فقط، أميركا ترفض الهيمنة الاقتصادية الصينية على أفريقيا وترفض حضورها العسكري في غرب المحيط الهادئ، فاستراتيجية التجديد الأميركية التي كتب عنها وزير الخارجية بلينكن في مجلة (فورن افيرز) تكشف قلقًا أميركيًا حول النظام الدولي الذي يمكن أن تعد به الصين العالم والذي يمكنه جعل المشروع الصيني جذابًا لبقية العالم، ولعل أخطر النقاط التي تناولها مقال بلينكن هو وصف "الصينوروسيا بأنهما تريدان ترسيخ الحكم الاستبدادي في الداخل وفرض مجالات النفوذ في الخارج".