إذا ما سلمنا أن العلاقة الجدلية بين العمران والإنسان مفتوحة ولا يمكن إغلاقها، فإن فكرة إمكانية خلق حلول توجه التأثير الإيجابي للعمران تبدو مجدية، تتعلق هذه الفكرة مرحليًا بخلق الحلول المرنة مفتوحة النهاية التي يمكن أن تتكيف مع تجدد رغبات الناس وتلبيها وتسمح لهم بالتعبير عن قيمهم الثابتة والمتجددة، هذه الحلول التي تبدو سهلة وبسيطة هي في الوقع ممتنعة وتصل أحيانًا إلى كونها شبه مستحيلة.. دعيت يوم الأربعاء الفائت من قبل النادي الثقافي في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن لمحاورة الطلاب حول "تأثير العمران على الإنسان"، وكان السؤال الأهم قبل بدء الحوار هو: هل العمران يؤثر على سلوك الناس ويغير من قيمهم؟ قبل هذا اللقاء بأيام كنت مشاركا في ندوة حول الهوية العمرانية نظمها ملتقى أسبار، ويمكن أن أقول إنه لا يوجد رابط مباشر بين الحدثين سوى أن "الإنسان" هو محور العمارة والعمران، وكل فعل عمراني يبدأ من حاجة الناس وينتهي بذائقتهم وتصوراتهم عن الحياة والكون ويعبر عن ثقافتهم ومعتقداتهم، لذلك كانت أول عبارة ذكرتها للإجابة عن السؤال هي: أن الإنسان هو الذي يصنع العمران ويمكن أن أستعيد هنا ما قاله رئيس الوزراء البريطاني "وينستون تشرشل" "نشكل مبانينا ثم بعد ذلك تشكلنا"، فلا يعني أن الإنسان هو من يصنع العمران أنه لا يتأثر به. هذه العلاقة الجدلية كانت بداية مهمة للحوار حول موضوع عميق ومتشعب. يبدو أنه لا خلاف حول تأثير الإنسان على العمران وأنه يطبع هذا العمران بثقافته وعلومه والتقنيات التي ابتكرها واستجاباته للبيئة الطبيعية المحيطة به، لكن يكمن الجدل في تأثير العمران على الإنسان، وهذا الجدل ليس وليد الساعة بل يمتد، من الناحية الأكاديمية، إلى الخمسة أو الستة العقود الفائتة، عندما تطور التوجه الذي يؤكد حتمية تأثير العمران على الإنسان، لكن سرعان ما تراجع هذا التوجه لأنه يعتمد على جوانب يقينية غير مثبت وجودها وحتى لو تم إثباتها يصعب تأكيد استمرارها كون الإنسان كائنا متغيّرا وهو الذي يغيّر ما حوله. هذا دفع بالباحثين إلى التفكير في احتمالية التأثير، لأن التوجه الحتمي جعل البعض يعتقد أن المنتج العمراني المادي هو سبب تدهور بعض القيم وروابط القرابة وغيرها وأهملوا الجوانب الاجتماعية الأساسية، بينما الواقع يؤكد أن التغير الاجتماعي هو الذي أنتج عمرانا يبدو أنه يدعم هذا التدهور في روابط القرابة والجيرة. هذا مثال لإحدى النتائج التي صار يفرضها التوجه الحتمي لكن مع ظهور فكرة الاحتمال حدث بعض الاتزان في تقييم تأثير العمران الفعلي على الناس. في الواقع أنه لم يتم الاكتفاء بذلك فظهر توجه ثالث يقول بإمكان إحداث التغيير الموجّهة، أي أنه يمكننا خلق تأثير إيجابي للعمران على الناس من خلال تبني حلول وقرارات محددة. وطبعا هذا التوجه لا يزال يمثل معركة الجدل الدائر حول تأثير العمران على الإنسان، بما في ذلك فكرة "أنسنة المدن"، وغيرها من أفكار تحاول أن تجعل المدينة مكانا أفضل للحياة. كانت هذه البداية الجدلية مفتاحا للحوار وقبل ذلك تمهيدا للفكرة الأساسية التي تقول إن الوظيفة هي المبرر الأساس للعمران، والتأثير يبدأ من فهم الوظيفة وتلبية مطالبها بشكل صحيح، خصوصا جوانبها الاجتماعية والقيمية، لكن في نفس الوقت يجب أن نعي أن البشر يتجاوزن الوظيفة وما تخلقه من تكوينات عمرانية إلى ما وراءها، وهذا التجاوز الذي يصعب قياسه هو الذي يجعل من العمارة غامضة ومجال للتواصل ومخزن للرموز والرسائل، لكنه في نفس الوقت يعمّق الجدل حول الفكرة التي تدور حول "تأثير العمران على الإنسان"، فالبشر يوظفون العمارة لغاياتهم ويدفعون بالأشكال التي تنتجها لنقل رسائلهم ورموزهم ويحمّلون تكويناتها قيمهم ونظم حياتهم، فهل فعلا يؤثر العمران على البشر أم أن البشر هم الذين يصنعون هذا التأثير لغاية في نفوسهم؟ في محاضرة الهوية العمرانية ذكرت أن نظام التخطيط الشبكي لم يكن مسؤولا في يوم عن تدهور نظم القرابة والجيرة في البيئة العمرانية، بل إن التغير الاجتماعي المرغوب هو الذي أنتج هذه الظاهرة كما أنه لم يكن النظام العمراني العضوي في المدن القديمة سببا لوجود تلك الروابط بل كان ولا يزال المجتمع وإرادته هو الباعث لنشأة العمران وقبوله. النظام الشبكي كان حاجة سياسية واجتماعية وتعبيرا عن عصر جديد، وهكذا هي العمارة عبر العصور. وطالما أنني طرحت فكرة أن البشر هم الذين يحددون التأثير المرغوب من العمران ثم يفقدون القدرة على السيطرة على نتائج هذا التأثير، لذلك فقد قادنا الحوار إلى وجود حلقة غامضة يصعب قياسها وتعتمد بدرجة كبيرة على وعي المجتمع ورغباته ووجود الحد الأدنى المشترك من التفاهمات (وليس القيم فقط) والتطلعات والأهداف. كان هناك سؤال جوهري أثير حول "المشاركة الاجتماعية في صنع القرار العمراني"، ورغم أن هذا السؤال أثير في ندوة الهوية العمرانية، إلا أنني أرى أنه ممكن أن يكون مفتاحا لفهم شبكة التداخلات التي تحد من قدرتنا على الإجابة على ماهية ومدى ونوعية تأثير العمران على الإنسان. المشاركة الاجتماعية تعني نقل الرغبات، خصوصا النفعية الوظيفية وما يتبعها من تصورات وأنماط حياة، إلى القرارات التي سينتج عنها العمران. مع ذلك يظل السؤال حول: وماذا سيحدث بعد ذلك؟ والمقصود أن العمران يبقى فترة زمنية أطول من وجود من شاركوا في صناعته. البعض يفسر كثرة المباني المهجورة في المدن السعودية بأنها لم تعد قادرة على التفاعل مع الرغبات الجديدة للناس بعد غياب من صنعوها. إذا ما سلمنا أن العلاقة الجدلية بين العمران والإنسان مفتوحة ولا يمكن إغلاقها، فإن فكرة إمكانية خلق حلول توجه التأثير الإيجابي للعمران تبدو مجدية.. تتعلق هذه الفكرة مرحليا بخلق الحلول المرنة مفتوحة النهاية التي يمكن أن تتكيف مع تجدد رغبات الناس وتلبيها وتسمح لهم بالتعبير عن قيمهم الثابتة والمتجددة.. هذه الحلول التي تبدو سهلة وبسيطة هي في الوقع ممتنعة وتصل أحيانًا إلى كونها شبه مستحيلة.