يصعب الإلمام بموضوع شائك مثل هذا في مقال عابر، لكن الإشارات التي طرحها الطلاب حول ماذا ستكون عليه العمارة السعودية في المستقبل بعد كل هذه التطورات العمرانية والمعمارية وفي ظل غياب نقدي جدلي شبه كامل ينذر بضياع فرصة استثمار هذه التحولات لتطوير مبادئ توجه العمارة السعودية المستقبلية.. طلبت من طلاب مادة قضايا معاصرة في العمارة أن يبحثوا في الأحداث المعمارية والعمرانية التي سوف تشكل مستقبل العمارة في المملكة خلال العقود القادمة، وذكرت لهم أن يركزوا بشكل خاص على العشر سنوات الأخيرة، سألتهم سؤالاً مباشراً هو: لو طلب منكم تحديد 10 مشروعات معمارية وعمرانية نفذت أو أعلن عن تنفيذها في العقد الأخير، فما هذه المشروعات؟ ولماذا تعتقدون أنها ستشكل شخصية العمارة السعودية في المستقبل؟ من المتفق عليه أنه في ظل غياب مناخ فكري جدلي في أي مجال فني أو عمراني تحل المشروعات الكبرى مكان التأثير الفكري وتُحدث تياراً من المقلدين والتابعين للأفكار التي تقدمها هذه المشروعات التي غالباً ما تكون منتجة من أعلى الهرم وينتقل تأثيرها تدريجاً حتى يصل إلى القاعدة الاجتماعية، تجدر الإشارة هنا إلى أنه لا يوجد مناخ فكري نقدي في مجال العمارة في الوقت الراهن يمكن أن يخلق حواراً جدلياً حول المشروعات الكبرى التي يُعلن عنها بكل ما ستحمله من تأثير عميق لن يشكل شكل المدينة السعودية في المستقبل فقط بل سيؤثر على الكيفية التي سيفكر وسيعيش بها المجتمع السعودي نفسه. اختار الطلاب 5 مشروعات عمرانية هي" ذا لاين" وحديقة الملك سلمان وداون تاون والمكعب والمربع الجديد والقدّية، وبالطبع هناك الكثير من المشروعات التي أُعلن عنها لكن الهدف هو تحديد أهم 5 مشروعات عمرانية يرى معماريو المستقبل (أغلب الطلاب سوف يتخرجون هذا الفصل) أنها ستغير قواعد اللعبة العمرانية في المملكة وسوف تخلق تقاليد جديدة في مجال العمران لم تكن موجودة من قبل. بالنسبة لهم وجدوا أن كل مشروع من المشروعات الخمسة يمكن أن يشكل اتجاهاً مستقبلياً يساهم في تعزيز العمارة السعودية، فمدينة "ذا لاين" تدور في فلك مدن الخمس أو خمسة عشر دقيقة والمقصود الوصول لجميع الخدمات خلال دقائق مشياً على الأقدام، وكان السؤال المهم هو: هل نحقق هذا الهدف من خلال تقليص رقعة البناء كما هو الحاصل في "ذا لاين" والتركيز على ارتفاعات عالية للمباني أو تقسيم المدينة إلى مصفوفات ذات مراكز خدمية متكاملة بارتفاعات منخفضة؟ هذا السؤال لا يزال مفتوحاً للحوار وسيكون له تأثير عميق في تشكيل هوية المدينة السعودية مستقبلاً. بالنسبة لحديقة الملك سلمان في الرياض هي مشروع إحيائي عميق لقلب المدينة، ويفترض أن يكون هدف جميع المدن السعودية أن يكون قلبها النابض أخضر ويحتوي على مولدات الثقافة والفن. الثلاثة مشروعات المتبقية تفتح التفكير على مسألة العمارة والاقتصاد، وما يعني هذا الارتباط من تفكير في مسألة "التطوير العقاري الشامل". يمكن أن نضيف كذلك حي الملك سلمان الذي أعلن عنه مؤخراً، وكذلك مشروع وسط الرياض، وكلا المشروعين يعيداننا إلى التفكير في "إحياء" المناطق المهملة في المدينة الذي نتجت عن التطور العمراني السريع في العقود الفائتة. الخمسة مشروعات الأخرى التي اختارها الطلاب كانت مبانٍ منفردة وهي: مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) في الظهران، ومركز الملك عبدالله للدراسات البترولية (كابسارك) في الرياض، ومتحف الفن الحديث في الدرعية، وعمارة مترو الرياض، ومركز الملك عبدالله المالي. أنا على يقين أن هناك من له تفضيلات أخرى ويرى أن لبعض المشروعات تأثيراً أعمق، لكن سأشير إلى الأسباب التي دعت الطلاب لاختيار هذه الأمثلة، فمركز إثراء يشكل حالة ثقافية/ معمارية استشرافية، فقد صمم المركز كي يصنع ثقافة جديدة في مجتمع المنطقة الشرقية والمملكة، ويقدم الثقافة السعودية للعالم، وهو من الناحية المعمارية يشكل حالة فريدة في استعاراته الطبيعية والتشكيلية والتقنية. مركز "كابسارك" من تصميم زها حديد، ويفترض أن يحث على التفكير في "تخليق الأشكال" والقدرة على تحول البيئة الطبيعية إلى حقل من الرموز البصرية التي تفتح مخيلة المعماريين في المستقبل. عمارة المترو ومركز الملك عبدالله المالي يشكلان معرضاً للعمارة، فالمركز المالي يصنع مدينة داخل مدينة الرياض، تحتوي على معرض دائم للعمارة تستحق تفكيكاً خاصاً، أما المترو فيفرض تحدٍ حقيقي على الشكل العمراني القائم، ويحث على التفكير في "القدرات الكامنة" المهملة لمكونات المدينة. يبقى معرض الفن في الدرعية ليشير إلى القدرة التشكيلية الفائقة التي تمتلكها الأشكال التاريخية إذا ما وجدت معماراً مبدعاً وخلاقاً. يصعب الإلمام بموضوع شائك مثل هذا في مقال عابر، لكن الإشارات التي طرحها الطلاب حول ماذا ستكون عليه العمارة السعودية في المستقبل بعد كل هذه التطورات العمرانية والمعمارية وفي ظل غياب نقدي جدلي شبه كامل ينذر بضياع فرصة استثمار هذه التحولات لتطوير مبادئ توجه العمارة السعودية المستقبلية. أنا على يقين أن أغلب المعماريين بما في ذلك الأكاديميين منهم يجول في أذهانهم الكثير من الأسئلة حول لحظات التحول التي تعيشها العمارة السعودية حالياً، وماذا سيكون أثرها في المستقبل، وأتمنى أن يتحول ما يجول في الذهن إلى حوار مسموع ومكتوب في القريب العاجل.