في ذكرى توحيد هذه البلاد العظمى، التي غدت محط أنظار العالم، ينبغي لنا أن ننظر في حياة مؤسسها، رحمه الله، ذلك الرجل العظيم، الذي نستلهم من حياته دروسا نمضي بها في خضم هذه الدنيا التي عجت بالخطوب، وتلاطمت فيها أمواج الأطماع والتآمر من أحبة، بله الأعداء والحاسدين! إن توحيد هذه البلاد منحة ربانية، ومعجزة إنسانية، تعطينا درسا مهما في العزم والهمة، وتقول لنا بلسان الواقع الذي نعيشه اليوم إن المجد لا يبنى بالكسل، ولا يتماشى مع التشاؤم، ولا يمضي مع المثبطين، ولا الخائفين. كما لا يمكن بناؤه بمجد التمني، والوجد على أطلال الماضي، ومكانة الآباء والأجداد، فلو مكث المؤسس يتغنى بمجد آبائه وأجداده، لما غيّر حاله، ولما سطر له التاريخ حرفا، فكيف يسطر في ديوانه المجلدات؟ كما لو بقي المؤسس رهن واقعه المرير، لما حرّك ساكناً، ولما امتطى صهوة جواده صوب الرياض، لتصبح في قبضته، وتحت إمرته، فحقق أن المرء يجب عليه أن يتقدم أو يتأخر، ولا مكان للتوقف في الحياة الجادة. إن من أهم الدروس أيضًا في حياة المؤسس -رحمه الله-، أن تحمل الهمّ، وتبدأ بالتخطيط له، وتبحث عن المعين لتحقيقه، وأن تبذل فيه النفس والمال، وأن لا راحة للجسد في طلب المعالي، فإن الذي قد يغيب عن ذهن الشباب خاصة، ومن لم يقرأ التاريخ أن التأسيس لم يكن بتلك الصعوبة التي عانى منها المؤسس ومن معه، وهم على ظهور الجمال والخيل يجوبون هذه الصحاري والجبال، بأسلحة تقليدية، يواجهون تشتتا قبليا، وإمارات عدة، وفوضى عارمة، وتحالفات، وعداوات، وشعارات، وأفكارا، وتعصبات، وحدث ولا حرج عن الحال في تلك الأيام. فإن كان خضوع الرياض هو البداية، فإن الصعوبات لم تنتهِ، بل استمرت المعاناة عقودا من الزمن، حتى استقر الوضع بإعلان الوحدة، وتأسيس المملكة، وأعلن في الأصقاع أن الملك لله (سبحانه) ثم لابن سعود. إن واقع الغربة التي عانى منها المؤسس رحمه الله، لم يكن عقبة تمنع الأمل، ولم يكن تحقيق الحلم مستحيلا على همة شابة، متوقدة مستعدة للتضحية والبذل، مسلحة بالفكر الناضج، والعقل الحصيف، والرؤية البعيدة، والعزيمة الثابتة، والنظرة الثاقبة، مع ما تحمله في صدرها من فروسية، وثقة برب معين، وتوكل على حي قيوم. ومن دروس التأسيس أن القيادة تجمع أمرين مهمين، يلخصها قول عمر رضي الله تعالى عنه: شدة من غير عنف، ولين من غير ضعف. وهذا ما تمثّل في سيرة التأسيس التي لا يمكن الإحاطة بأمثلتها في مثل هذا المقام. وليت وزارة الثقافة تسعى لإنتاج فيلم يحكي تلك السيرة، ويلخص أهم أحداث ذلك التاريخ، إنتاجا يليق به، وتتعاون مع دارة الملك عبدالعزيز، حتى يكون مرجعا للشبيبة، معرفا بالماضي الذي بفضل الله ثم بفضله ننعم اليوم بهذا الخير العميم، وبهذا الاستقرار المثير للدهشة، والأمن المحيط بالأرجاء يحلم به كثير من شعوب العالم، ويبين كيف انصهرت تلك القبائل بذلك العزم تحت هذه الراية الخضراء، حتى أصبحت هذه البلاد عجوزا في عمرها، حين تحتفل بعامها الرابع والتسعين، شابة في همتها، وأفعالها، وحيويتها، بقيادة تجمع الحكمة والعزم والحزم، ويتلخص في ولاية العهد فيها مجمل ما توفر في المؤسس رحمه الله، فيجزم العاقل أن الحفيد قد شرب من الجد حتى ارتوى. وأتخيله يقول: حدثني أبي عن جدي أنه كان دوما يتمثل بقول الشاعر: وإذا كانت النفوس كبارا .. تعبت في مرادها الأجسام هذا، والله من وراء القصد.