أخبر الله جل وعلا عن موسى عليه السلام، بعد أن منَّ الله عليه برسالاته وبكلامه، وأمره بأن يذهب إلى فرعون، "إنه طغى"، فقال موسى عليه السلام "رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون، وأخي هارون هو أفصح مني لسانا، فأرسله معي ردءا يصدقني، إني أخاف أن يكذبون". فالخوف جبلة إنسانية، وقعت لأفضل الخلق، وأقربهم من الله، وهذا موسى عليه السلام يكلمه ربه، ومعه أخوه هارون عليه السلام، حتى قالا "إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى" فلم يقدرا على التخلص من هذه الجبلة حتى أمنهما الله، وطمأنهما، "قال لا تخافا، إنني معكما أسمع وأرى". ولما ألقى موسى العصا ورآها "تهتز كأنها جان، ولى مدبرا ولم يعقب" فلا شجاع مهما بلغت شجاعته لا يخامر الخوف من القتل أو الضرر، لكنها الثقة بالله، وبوعده، ورجاء الثواب منه، هو الذي يخفف على المقاتل إقدامه، ويهون على المؤمن حياته. فموسى عليه السلام غاب عنه مع هول صدمته من عبء الرسالة إلى أكبر طاغية في ذلك الزمان أن المكلم له هو الذي بيده كل شيء، "وهو يجير ولا يجار عليه"، فغيره من باب أولى، مهما بلغت قوة إيمانه، فإنه محتاج إلى التذكير بصدق وعد الله، وحسن رعايته للمؤمنين، وأن نصره قريب، وانه يحوط المؤمنين بحفظه وكفايته. وفي قول موسى مشيرا إلى أخيه هارون بأنه أفصح منه، إشارات كثيرة، لعل من أبرزها مناداته في موقف لم ينل بشر مثله من الكرامة فيه حيث يكلمه الرحمن تكليما حتى أشار إلى أخيه منوها بفصاحته، ومشيرا إلى قدرته على البيان وحسن الخطاب في الدعوة، وذكر معها صفة عظيمة هي أخوة النسب، والأخ أقرب ما يكون من أخيه نفعا وسترا، وحفظا ونصحا، لهذا قال "ردءا" أي رداء يسترني. وفي الآية بيان عدم إجحاف المستحق بسبب قرابته، فكما لا يصح محاباته بتعيينه في منصب لمجرد القرابة وهو غير قوي وغير أمين، فليس كفؤا لتلك الولاية، فإنه في الوقت نفسه لا يصح ظلمه وإبعاده عنها إذا توفرت فيه الكفاءة من القوة والأمانة، كما علل موسى ترشيحه لهارون بأنه أفصح منه لسانا، فبين العلة في الترشيح، أي ليس لمجرد كونه أخا أرشحه، وليس بسبب كونه أخا تظلمه فتحرمه. وقد طعن بعض الصحابة في إمارة أسامة بن زيد رضي الله عنهما للجيش، فبين عليه الصلاة والسلام أنه خليق بالإمارة، كما كان أبوه خليقا بها، وأن كانا لأحب الناس إليه. كما أعطى عليه صلى الله عليه وآله الراية يوم خيبر لعلي رضي الله عنه، وشهد له بأنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، وعلي ابن عمه، وصهره، فلم يمنعه مكانه منه من توليته ما يستحق. وفي الآية أن القائد الفذ الذي يحرص على نصح الأمة، وأداء الأمانة لا يتوانى في تسليم الأمانة أو شطر منها لمعين له في أدائها لتفوقه عليه في إحدى الميزات المهمة في أدائها. بل ينظر إلى من هو متميز في شيء مما تحتاجه ولايته فيستقطب من يتقنها، ولو كان أعلم منه وأقدر، وموسى مع أنه المرسل الأصيل إلا أنه بين تفوق هارون عليه في الفصاحة، وهو الذي تحتاجه المحاجة البيان. وهذا يحتاج إلى التخلص من حظوظ النفس من القائد، أو المسئول، وأنه لا بد له من أن يؤمن بأن العقل الواحد قد يقصر عن أداء المهمة، فيحتاج إلى معين ومستشار وسند يعضده ويشد من أزره، وهذا من التعاون التكاملي لا التنافسي الذي يطرد كل موهوب، وينفي كل متميز. وفي الآية أن القائد أو المعين لمنصب ما لا يشترط أن يكون مكتملا في كل ميزة، ومحيطا بكل علم، وحائزا على كل فضيلة، أو موهبة، فقد كان موسى أقل من هارون فصاحة، ومع ذلك اختاره الله تعالى للرسالة، عن جدارة، وموسى وإن قصر عن هارون في الفصاحة فقد فاقه في ميزات أخر مجموعها بلّغه الرسالة الأصل، ومن أهمها نقاء سريرته وحبه للخير، ورحمته بالناس. وفي الآية أن الاستسلام للوضع الراهن ليس من شيم المؤمنين، ولا التكاسل إذا عظمت المهمة، فلا يقف معتذرا بالمستحيل، ولا بالعسير، بل يبادر بالحلول الممكنة، ويطلب العون ممن يظن أنه قادر عليه. فيا لله ما أعظم هذا القرآن، وما أوجز عباراته وما أغزر معانيها، وما أكثر إشاراتها، وما أدق تعبيرها، وما أشملها لخيري الدنيا والآخرة.. هذا، والله من وراء القصد.