بقلوبهم.. يفكّر الشعراء * * هب أنّك الأبديُّ.. هل تحتاجُ عمرًا آخرًا تحياهُ؟! لا.. لا شيء يغري الريحَ بالصحراء إلَّا أنّها تهبُ الرمالَ السمر رقصتها وترحلُ للغيومْ..! * * في يومك ما يدفعك للكلامِ في مجالسَ الصمت.. ما يمنحك دون غيرك على أن لا يتعثّر بكَ الوقت.. ولا تتأخّر لك المشيئة.. ما الذي ستفعله لو لم تكن شاعرًا يومًا، هل ستكمل عمرك الخالد؟.. أكبر من العصفور وأرق من الفراشة، أكثر من الخيال وأصدق من الحقيقة، أبعد من الممكن وأدنى إلى المحال.. وهل سيمنحك التاريخ استحقاقك والعالم نرجسيتك، والوجود ظلالك..؟ لستَ إلا واحدًا من سلالة بشرية غجرية الوجود.. ظلّت تهاجر وتتهجّر منذ آلاف السنين تبحث عن مدينة الجوهر الإنساني.. وكلما وقَفْتَ على تخومها.. سكنتَ وحدك دائمًا حجرات براكينها.. صادقت هناك الفناء والخطر والغربة والتشرّد والسجون والوحوش.. وما صرعك غير الحب ولا بحثت فيها يومًا إلا عن نفسك، ولا سألت عنك إلا صمتك.. لكنك بعد كل هذا لا تجيئنا حين تجيء إلا ببخور روحك ولا تغادرنا إلا بتذكرة الخلود! * كما يفعل الطيبون تمامًا.. أردّ السلام على العابسين بمرآة سيارتي حين يشتمني بوقهم وأعود إلى البيت أحمل خبزَ الظهيرةِ أفرح بالغيم مثل صغيري.. وآخذه نزهةً للعيون تحدّث مثلي بلكنته الساحليةِ.. قال: المدينة هاربة من فراغ البيوتِ لضيق الظنونْ.. سنخرجُ لليل.. لم يبقَ في الضوء إلا الزحام الممل... أناسٌ يراؤون بالذنب.. لا يسكنونَ السلام.. ويرحلون عليهم ثياب الصلاةِ.. ولكنهم يعمهون كما يفعل الطيبون تمامًا.. تمامًا. أنا وصغيري نطيل التأمّل في الناس.. والناس لا يدركون..! * * أسألك أيها الشاعر.. ماذا لو لم تكن شاعرًا؟ * هل سيكون للشارع وجه آخر يحدّثك عن ظلال المتعبين..؟ * عن امرأة تركت عطرها عرضة للحلم ومشيتها نداء للخطيئة..؟ * عن أخرى عبرته برفقة طفلها فماتت دونه تحت عجلات سيارة لا تجيد طريق القصيدة؟! * هل سيكون المطر غير منزلقٍ لهواجسك المنهكة بالفقر، حين تبني فيه وحدك كوخًا في قوس قزح.. حين تحاور من على هضبة غيمة نجمةً خائفة من عراء السماء، أو أخرى ضلّت طريقها إلى الأرض.. هل سيكون لهذه المدينة الخرسانية الصامتة صوت فيروز وقصائد جبران، أسألك هل ستكون قادرًا لولا الشعر على أن تردّ السلام على الشمس.. أن تجاور القمر.. أن تهمس في أذن فراشة تدنو إلى النار، أن تستريح قليلًا في مدينة التعب، أن تُقرئ أطفالك سيرة الأحلام، وخديعة شهرزاد، ورقصة سيندريلا العابرة؟! * كما يفعل الطيبون تمامًا.. يسعون بين مناكبِ أيامهم ثم لا يبلغون الحياة..! يقول الرواة: مضى كلهم خلف حقلِ عتيقٍ.. يبيعون غلته بالنجاة قال النحاة: للنهي جزمٌ وللنصب فتحٌ.. وللضم دفء الشفاه! وأما المضاف إليه فقد جرّه الفقرُ يحمل كل العوادمِ في وجهه.. يتوضّأ بردَ الشتاءِ.. وصيفَ البقاءِ ولكنه لا يؤدي الصلاة..! * أعلم أن قلقك قصيدة وأنك إنما تحاول إسكات الأصوات لتقول الرؤيا.. لهذا ستبقى كأنتَ تمامًا يختزلك الصمت للكلام، واليقظة للنوم، والتذكّر للحزن، والنميمة للندم، والوقت للفراغ، والحلم للخيبة، والموت للخلود..! أنت من قبيلة الشعراء يا صديقي وعليهم منذ فجر الكلام أن يستعيدوا أسماءهم، وينتظروا ميلادهم، ويدركوا موتهم، وحينما يتعاطون الحياة لا يبلغون من ظلالهم إلا عتمة دُكنتهم، ولا من خطواتهم إلا زحام العابرين حولهم...!