وصف الله الحياة الدنيا في كتابه بأنها «متاع الغرور» في غير ما آية، وقال في توبيخ أهل النار عياذا بالله منها «وغرتكم الحياة الدنيا». وكثيرا ما نبه الخطباء من فوق منابرهم على هذا المبدأ، وحذروا من الاغترار بالدنيا، والركون إليها! ولا ريب أن تنبيه الغافل الذي جعل الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه، حسن، بل واجب؛ لأن الدنيا في حقيقتها لا تغر إلا من غفل عن تنبيهها له في أحوالها المتقلبة، وسرعة زوالها، وفجاءة الانتقال منها، وهذا مما يشاهده العيان، ولا ينكره أي إنسان. ولست أريد من مقالي هذا أن أجعله موعظة وتذكيرا، فإن الصحافة ليس لها في الوعظ شأن، إذ هي أخبار وفكر ورأي.. وإنما لفت نظري في هذا الزمان المتفتح أن الاغترار بالدنيا لم يعد قصرا على الغافلين، ولا على الجاهلين، بل ولا على غير المسلمين، بل تجاوزهم إلى المذكرين أنفسهم، وإلى من لا يزال مسواكه في فمه، وبشته على كتفه، وساقاه يبدوان من تحت ثيابه! وهو يزمجر حاثا الناس على ترك الدنيا وزخرفها بلسانه، ولكن حاله لا يشهد له إلا بأنه أكثر المنغمسين فيها، وأشد المتفاخرين بها، فهذا قصره، وهذه استراحته، وتلك مزرعته، وحدث ولا حرج عن أرصدتهم، وسياراتهم، وعقاراتهم! قد تستعجل فتذكر لي أن الغنى ليس عيبا، والنعمة ينبغي أن تظهر، وأن السلف ومنهم الصحب الكرام كان فيهم أهل الغنى والثراء.. وأجيبك بأنك لم تقل إلا حقا، ولكن، وكم بعد لكن من أوجاع، وكم بعدها من استدراك! لو قارنت بين هؤلاء أولئك لبان لك الفرق، والبون بينهم شاسع بين حالهم وحالهم، هم يحدثونك عن عثمان وإنفاقه، وعن سعد ورغبته التصدق بماله، وقبل ذلك عن فعل الصديق حين دعا النبي صلى الله عليه وآله للصدقة، ومنافسة عمر رضي الله عنه له، فإن تساءل الناس في زماننا هذا عن البنوك وأهل التجارة، عن مساهماتهم في الحياة الاجتماعية وإنفاقهم في مصالح الدين والوطن، فأين منهم أولو العلم والدين؟ ألا يفترض أن يكونوا في المقدمة، وحملة الراية في كل مجال نافع دينا ووطنا؟ إن بعض أهل العلم والدين والدعوة اليوم بل كثير منهم يلهثون في طلب الدنيا ويسعون لنيل زخرفها، ويتفاخرون بأملاكهم، وانظر إلى حفلاتهم، وولائمهم فهل ترى فرقا بينهم وبين من يرونهم من أهل الدنيا لا من أهل الآخرة؟ أذكر كلمة للشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله- في ترجمته للإمام أحمد -رحمه الله-، قال بعدها: وليس لنا من هذا إلا الرواية، وأنا أكتبها من ذاكرتي لا بنصها، ويعني -رحمه الله- أن ذكر الزهد والورع لم يعد إلا رواية من فوق ظهور المنابر، أو فوق صهوة الكلام، ولم يعد له أثر حسي، أو تطبيق واقعي! وأنبه أني لست ضد الغنى المشروع شرعا وعقلا، ولست أطالب الدعاة والعلماء أن يكونوا فقراء معوزين، ولكني أعجب من هذا التسارع في المفاخرة، في الولائم والمراكب، والأموال لا شيء يذكر منها للدين ولا للوطن. وفي السيرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت، فقارن بين هذا وبين دعوات المشايخ والدعاة، فلن تجدهم في بيت فقير يجيبون دعوته، أو مسكين يجبرون خاطره! رحم الله زهاد العلماء الذين رحلوا من هذه الدنيا وقد ملؤوها علما ودعوة ونصحا للعام والخاص، وما زلنا نذكر زهدهم الذي رأيناه، وعايشناه، ولعل هذا هو سر القبول منهم، وبقاء ذكرهم على ألسنة الناس وفي قلوبهم! هذا، والله من وراء القصد.