ما يجعل تفسير الجمال غامضًا أن الفن غامض وغير متوقع ويصعب تحديد معايير له، لذلك فرق النقاد منذ زمن طويل بين الفن المرتبط بالخيال الذي يصنع جمالًا مختلفًا كل مرة وبين الحرفة التي تخلق جمال متكررًا.. ربما يخلق العمل الحرفي الدهشة لمرة واحدة لكن الأعمال الفنية غير المتكررة تجدد الدهشة ومعها الأسئلة التي لا إجابات لها.. هناك من يتحدث عن الجمال الذي لا يمكن وصفه، لأنه جمال مريح ومتوازن ودائم، أنه جمال يصعب تحديد تعريف له، لكنه يغمرنا يأخذنا في رحلة أبدية معه. الجمال المفاجئ والصادم والبسيط الذي يميز عمارتنا التراثية دون مبالغة ودون إسراف يمكن أن نشعر به من قول أمير الشعراء أحمد شوقي: "جمعت الطبيعة عبقريتها فكانت الجمال. وكان أحسن الجمال وأشرفه، ما حل في الهيكل الآدمي، وجاور العقل الشريف، والنفس اللطيفة والحياة الشاعرة. فالجمال البشرى سيد الجمال كله"، ويرى أن "الجمال شعاع علوى، يبسط الجميل البديع على بعض الهياكل البشرية يكسوها روعة ويحيلها سحرا وفتنة للناس". فما هو هذا الشعاع العلوي الذي يصنع الجمال الذي يتحرر من فتنة الشكل إلى الغوص عميقا فيما وراء الشكل؟ كيف نستطيع أن نمسك بهذا الشعاع أو حتى نضع له تعريفا؟ البحث عن الجمال الكامن الذي لا يظهر لنا بصورة مباشرة لكنه يشعرنا به هو أحد أسرار الجمال الأبدي الذي يصعب صنعه قصدا، أنه يتكون بشكل عفوي ومن خلال ممارسة إنسانية عفوية. في التراث العمراني يتشكل هذا الجمال في بساطة المشهد الذي يحيط بنا نشعر براحة غامرة لا نعرف مصدرها لكنها تحتوينا، فمن أين يأتي هذا الجمال وما سره؟ أحد الأسرار العميقة في الفنون الجمالية العربية مثلا هو أن الموضوع الجمالي لا يوضع لملء الفراغ الذي يوجد فيه بل أنه يعالج تشكيليا ليكون جزءا من المكان الذي يشغله، ولعل هذا ما يميز التراث العمراني بشكل عام، فالتكوينات العفوية البسيطة التي تملأ الفضاء العمراني لم توضع لملء هذا الفضاء بل هي ولدت منه وفيه، أنها جزء مكون لهذا الفضاء لا يمكن تصورها في مكان آخر ولا يمكن تصور المكان دونها، لذلك هي تخرج كمكون جمالي أصيل يصعب إعادة إنتاجه أو تقليده دون أن يمر بنفس الطريق الذي ولد منه سابقا. من الجمال البشري الذي خلقه الله في أحسن تقويم استخلصت النسبة الجمالية الذهبية التي تكونت حولها الفنون والأشكال المعمارية، إنها النسبة التي تحدد علاقة الأجزاء بعضها ببعض وتقود البشر إلى تحديد ما هو جميل. ومع ذلك فإن كلمة جمال لم تذكر في القرآن إلا مرة واحدة عندما ربطها الله بحركة الماشية، لكن هناك جمال خفي يظهر على الإنسان وملامحه عندما يرى الشيء الفائق الجمال وهو "النظرة" فتكون الوجوه نضرة عندما تنظر إلى الله يوم الحشر أو تلك الوجوه التي فيها نضرة النعيم. إنه جمال مرتبط بالشعور، فالشكل الجميل يحدث شعورا يولّد النضرة فتجعل وجه الإنسان أكثر جمالا. لكن القرآن لم يحدد ماهية الجمال الذي يحدث هذه النضرة التي يولّدها الشعور وتركها مفتوحة ولم تتم الإشارة للجمال إلا في موضع واحد مرتبط بحياة العرب وقت نزول القرآن، والسبب كما نراه هو أن "الجمال" مفتوح الحدود يختلف باختلاف الأفراد والثقافات. رغم ذلك تولدت رابطة عميقة بين "الجمال" و"الفن"، رغم أن الفن في بداية ظهوره كان وظيفيا توثيقيا، فالرسوم على جدران الكهوف أو تلك المحفورة على الصخور المنتشرة في شمال وجنوب المملكة لم يكن هدفها جماليا بل توثيق الحدث والمشهد الاجتماعي والطبيعي. فكيف تطورت هذه الرابطة؟ الفن، حسب المفكر زكي نجيب محمود، هو "أن ينظر الإنسان إلى الوجود الخارجي نظرة ذاتية مباشرة، كأنما هذا الوجود خطرة من خطرات نفسه، أو نبضه من نبضات قلبه، وتلك هي نظرة الروحاني ونظرة الشاعر ونظرة الفنان، وهي نظرة تتم على خطوة واحدة، بخلاف العلم النظري الذي تتم نظراته إلى العالم على خطوتين: ففي الأولى يتلقاه كما تنطبع به الحواس انطباعا مباشرا، وفي الثانية يستخلص معطياته الحسية نظريات وقوانين يصور بها مجرى الظواهر والأحداث". لعل الناقد يسعى دائما إلى الجمع بين إحساس الفنان وصرامة المنظر والباحث في نظرتنا للفن، وهذا في حد ذاته يتطلب منا بعض الإسهاب في التعبير عن الإحساس المباشر بالشكل قبل تفسيره بشكل عقلاني يتلاءم مع النظام الداخلي الموجود في الأشكال، كما يقرر ذلك زكي محمود الذي يؤكد "أن جمال الشيء الجميل قوامه دائما نظام داخلي في الشيء تتسق به أجزاؤه وعناصره". هناك من يربط الفن بالخيال، وغالبا ما يقود الخيال إلى الإبداع، لكنهم في نفس الوقت يقسمون الخيال إلى عدة خطوات هي "التخيّل والتخييل والمتخيّل، ويظهر الفن في النتيجة النهائية وهي ما ينتجه الخيال من أشكال وأعمال فنية مقروءة ومسموعة ومرئية، بينما التخييل يعتبر نوعا من "الحلم"، سواء كان هذا الحلم في اليقظة أو في النوم. يذكرني هذا بكتاب "كارل يانغ" "الإنسان ورموزه" الذي يفسر كثير من الأعمال الفنية على أنها نوع من الأحلام التي ترد البشر أثناء المنام. يجب أن نذكر هنا أنه لا يوجد خيال دون وجود خبرة سابقة، سواء جمالية أو غيرها، ينطلق منها الخيال، لكن ما يميز الخيال أنه يتجاوز تلك الخبرة ويتجاوزها أو يوسع من مجالها. ما يجعل تفسير الجمال غامضا أن الفن غامض وغير متوقع ويصعب تحديد معايير له، لذلك فرق النقاد منذ زمن طويل بين الفن المرتبط بالخيال الذي يصنع جمالا مختلفا كل مرة وبين الحرفة التي تخلق جمال متكررا. ربما يخلق العمل الحرفي الدهشة لمرة واحدة لكن الأعمال الفنية غير المتكررة تجدد الدهشة ومعها الأسئلة التي لا إجابات لها.