هذا المقال نشرته في هذه الصحيفة الغراء منذ 22 سنة وتحديداً في عدد "الرياض" رقم 640 السنة الثانية يوم الاثنين 20 ربيع الآخر 1423ه الموافق 1 يوليو 2002م، وهو الذي لقي امتنان صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير عسير آنذاك، فأعاد نشره كإعلان في الصفحة الأخيرة من صحيفة الوطن مذيلاً بعبارة (شكراً لمن صدق) وتوقيع سموه، ويشرفني إعادة نشره بعد هذه السنوات لسببين الأول أننا في موسم السياحة في عسير، والثاني أن البعض مازال يردد أسطوانة غلاء السياحة في عسير متناسياً أنها الأرخص عالمياً والأكثر أمناً وسلامة، والأيسر للوصول والأوفر بكل المقاييس، وفيما يلي نص المقال كما نشر في حينه: أكاد أجزم أن من كتبوا أو رسموا الكاريكاتير ملمحين إلى غلاء السكن أو عدم توفر المساكن في مصايفنا وبالذات في أبها، هم ممن لم يزوروا المصايف الداخلية وإذا غلبنا حسن الظن فهم ممن اعتمدوا على السماع دون الممارسة وقد سمعوا من مُبالغ أو من غير مؤيد للسياحة الداخلية. أمضيت صيف العام الماضي متنقلاً بين عدة مصايف داخلية ومستقراً في أبها، وتعمدت تنويع السكن دون سابق حجز فوجدت عكس ما كنت أقرأ من مقالات توحي بغلاء السكن أو رسومات تسخر من عدم توفر المساكن وغلاء الإيجارات مما يهبط همة من ينوي قضاء الإجازة في مصايفنا. حصلت على إجازتي العام الماضي فجأة دون سابق تخطيط لظروف عملي وحجزت على الخطوط السعودية لثمانية أفراد إلى أبها فلم أجد أدنى عناء، ووصلت أبها دون أن أحجز مسكناً فلم أجد أدنى مشقة في العثور على سكن رائع في فلل قرية سياحية في السودة، "أجمل بقاع الدنيا مناخاً صيفياً" بأسعار يومية تتراوح بين 250 و400 ريال حسب عدد الغرف وهذا المبلغ يعتبر معقولاً للغاية مقارنة بسعر سكن فيلا أو حتى غرفة مفردة في فندق في أية منطقة جذب في العالم فأين الغلاء؟! وأين شح المساكن؟! "البعض صور شح السكن إلى درجة اضطرته للسكن في مستشفى!! بعد الاستقرار لعدة أيام والاستمتاع بخدمات ومرافق القرية السياحية، غلبت عليّ ميولي القروية فقررت الاستمتاع بالريف في مسكن منفرد في نفس المنطقة شاهقة الارتفاع فكانت الخيارات متعددة من المنازل الجميلة المفروشة والمؤثثة بكل الاحتياجات الأسرية ولم يتجاوز إيجار أي منها مائتي ريال يومياً مع أن العقد يحدد أن الماء والكهرباء على المالك، واخترت منزلاً جميلاً يقع منفرداً في قمة جبل تلامسه السحب من كل جانب ويصل إليه الطريق المعبد حتى عتبة الباب بإيجار يومي قدره مائة وخمسون ريالاً، علما أن قيمة صهريج الماء الذي يتكفل به المالك متى شئت هي مائة ريال! فما عساه يوفر؟! وأي غلاء يتحدثون عنه؟ في ذلك المنزل أمضت الأسرة أسعد 30 يوماً صيفياً لم تجدها في أي مصيف آخر من قبل، (لا أحب الحديث عن تجارب الذات ولا أقولها تباهياً ولكن توثيقاً وأداء لشهادة حق وحتى لا يقول قائل: "هذا ما شاف عيشه"، فقد قضيت إجازات صيف في أورلاندو وباريس وماليزيا ولندن ولم أجد أمتع ولا أجمل ولا أرخص ولا آمن من عسير. كان السحاب يحتضن المنزل الصغير من كل جانب حتى لا تكاد ترى من حولك، تنام على صوت زخات المطر وخرير الجداول وتصحو على نغمات حبات البرد تطرق الباب الحديدي الآمن فأي سعادة أكبر ينشدها السائح! ما الذي يريده الهارب من حر الصيف أكثر من نسمات باردة وظواهر طبيعية فريدة وتحليق فوق السحاب وتجوال في متنزهات طبيعية بكر "بأمان تام لا غريب ولا مستغرب" وبين مواطنين قمة في الكرم وحسن التعامل.. أين يجد رب الأسرة نظماً وإجراءات تصون حرمة العائلة وتمنحها الميزات والأولوية (العائلة في مصايفنا هي بطاقة التسهيلات الذهبية)، هذه الميزة لا تشعر بأهميتها إلا عندما تفتقدها في الخارج باستثناء من لا يهمهم تقديم التنازلات من بند العادات والتقاليد والأخلاق والقيم..