واحدة من مراحل البحث العلمي هي الدراسة الميدانية، ويقوم الباحث فيها بجمع البيانات من بيئة العمل باستخدام إحدى الوسائل العلمية، مثل إجراء استفتاء للرأي باستخدام الاستبانات، أو إجراء مقابلات شخصية يجيب فيها المشاركون من عينة البحث عن أسئلة تتعلق بالدراسة، أو غير ذلك من الوسائل بحسب طبيعة وحاجة البحث. حكى لي أحد الباحثين أنه خلال هذه المرحلة من بحث الدكتوراه، أجرى عدداً من المقابلات الشخصية مع بعض مديري المشاريع والعاملين في المجال التقني في مجموعة من الشركات المحلية والأجنبية. وفي إحدى المقابلات، قام الباحث بتوجيه سؤال لأحد المبرمجين عن سبب فشل المشاريع بحسب خبرته. وتوقع الباحث إجابة على غرار: ضغوطات العمل، صعوبة فهم الطلبات، عجز في الميزانية، وغيرها من الأسباب التي عرفها الباحث من قراءة مراجع نظرية. لكن كانت المفاجأة عندما أجاب المبرمج أن سبب الفشل هو تنمّر زملائه في العمل! فهذا المبرمج يتعرض لمضايقات من تصرفات غير ناضجة من بعض زملائه، مثل قطع الكهرباء عن جهاز الحاسب أثناء عمله، أو مضايقته لفظياً عندما يحتاج للتركيز، وهذا أدى إلى تدنى جودة العمل وتأخير تسليم الجزء المطلوب منه. وقتها تمنى الباحث لو كان بإمكانه مساعدة هذا المبرمج، لكن أخلاقيات البحث العلمي ومن باب حفظ الخصوصية تمنع الباحث من التدخل في الأمور الخاصة أو التسبب بأي شوشرة في المنظمة التي يتم تطبيق الدراسة العلمية فيها. فما كان منه إلا أن نصح هذا المبرمج أن يتشجع ويقوم بنفسه بوضع حد لهذه المضايقات أو يقوم بتصعيد المشكلة إلى مديره المباشر للمساعدة. واختتم الباحث القصة، أن هذا المبرمج قد انتقل لاحقاً إلى شركة أخرى هرباً من أذى زملائه. على ضوء ما سبق، أستطيع تلخيص المستفاد كما يلي: أولاً: رغم أن الباحث قد راجع وعرف الكثير عن موضوع البحث من القراءة النظرية، إلا أن الميدان العملي يحفل دائماً بالجديد من المعارف والخبرات التي تزداد وتتغير مع الوقت، مثل أسباب فشل المشاريع هنا، وهذا يبرز أهمية الدراسة الميدانية لتحديث المراجع النظرية. ثانياً: بيئة العمل الصحية تعلب دوراً مؤثراً في نجاح العمل، والعكس صحيح. فالمضايقات بين الزملاء مثلاً تؤدي إلى بيئة عمل مضرّة، تؤدي إلى الفشل أو هرب موظفين أكفاء منها. أخيراً: التنمر من أنكى وأسوأ العادات التي اُبْتلي بها المجتمع، وقد لا يسلم منها صغير أو حتى كبير. وربما تجاوز ضررها الأذى النفسي إلى الأضرار المادية كما حصل في قصة المبرمج. والواجب هو التصدي لها ووضع حد لمرتكبيها والتوعية باجتنابها، وفي ذلك يكفى الإنسان وازعاً أن «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده».