عندما تقوم الدول وتبدأ سياسياً بقواعد تختلف باختلاف الزمان والمكان، ثم يتبعها نمو كافة المجالات الأخرى وأهمها الاقتصاد، فصعود أي قطاع وخاصة الاقتصاد يكون لأسباب وظروف وتحولات مختلفة، وقد يستمر النمو أو يتباطأ وفقاً للظروف، وإذا استمر الاقتصاد بالنمو فقد يصل لمستوى السياسة فيكونان جناحان تعتمد عليهما بقيت المجالات ويزيد من مكانة الدول عالميًا، وهذا ما يجعل السياسي يخلق التكييف المناسب بين الاقتصاد والسياسة؛ ويجعل فريقه السياسي يقوم على إصلاح وترميم ما يجلبه الخلاف السياسي الناتج عن الاقتصاد. إذا استمر الاقتصاد بالصعود دون ارتكاز بقواعد ورؤية واضحة؛ فيتجاوز الأهمية النسبية للسياسة، وأي تأثير اقتصادي يتبعه تأثير سياسي ثم تأثير على بقيت المجالات، حتى يهوي الاقتصاد فتهوي معه كافة المجالات، كما حصل للاتحاد السوفييتي وغيره؛ لذا نجد السياسي دائما ما يصعد بالاقتصاد لحد مستوى معين ثم يحدثه أو يعيد بناءه، لكي لا يكون الوزن النسبي للتأثير يتجاوز حجمه فيهوي بالكل! وهناك دول لا ترغب بدور سياسي عالٍ، كما هو اقتصادها، لكن عظمت اقتصادها يعطيها الثقل السياسي. إذاً السياسة تصعد بالاقتصاد حتى تكون السياسة في خدمة الاقتصاد، وما بينهم من مراحل تكون المجالات الأخرى في صعود وهبوط. ونجد أن التشريعات والقوانين لتنظيم التجارة الداخلية والخارجية تنتج التأثير الإيجابي للاقتصاد بحجمه المناسب لكل دولة، لكي لا يصل تأثير الاقتصاد على السياسة، أو يكون أداة من أدوات الضغط. وكلا المجالين: السياسي والاقتصادي لا يقومان إلا بقواعد أهمها الصحة والاستقرار والعلم، فرأينا ذلك في أزمة كورونا، وحيث إن أكبر 20 دولة اقتصادية تمتاز بالاستقرار، ولديهم تعليم يوازي نموهم. في العقود الأخيرة توسع مفهوم الاقتصاد ليشمل مجالات الأخرى مثل المجتمع والفرد وجودة الحياة وغيرها، ولم يتوسع مفهوم السياسة! كما أن الهيكلية السياسية تسير كما هي الهيكلية الاقتصادية، وأي حدث يخل بهذه العلاقة ينتج عنه عدم الثقة فتختفي النتائج الملموسة وغير الملموسة، وأهم ما يسبب هذا الخلل هو الفساد. وكثيراً من الدول تمتلك ثروات هائلة لكن لا ينعكس هذا على اقتصادها لأسباب كثيرة ومنها ما يقودها السياسي، فمثلاً روسيا تقدر ثرواتها ب75 تريليون دولار، ولكن اقتصادها 2 تريليون دولار، والدين العام 400 مليار دولار أي 21 ٪ من اقتصادها. بعكس أميركا التي تقدر ثرواتها ب 45 تريليون دولار واقتصادها يقدر ب 27 تريليون دولار، والدين العام وصل 35 تريليون دولار! أي 130 ٪ من اقتصادها! ومرشح لروسيا من أن تكون ضمن الخمس الكبار اقتصاديا، وتتبع إجراءات اقتصادية متأنية؛ لكي لا يكون التنامي سلبي على السياسة. الترابط والعلاقة بين السياسة والاقتصاد لأميركا مختلفة عن الآخرين، إذا أنها بدأت سياسياً عام 1776م، ثم نما اقتصادها أكثر من تناميها السياسي كعظمى! ولمعرفة ذلك.. نقول هل كانت أميركا عظمى سياسياً واقتصاديا معاً بالماضي؟ وأيهم كان له السبق؟ دخلت أميركا ضمن العشر الكبار اقتصادياً في عام 1801م، ثم ضمن الخمس الكبار في عام 1831م، وصعدت للمرتبة الثانية عام 1879م، ثم أصبحت أميركا الأول اقتصادياً في عام 1890م، بعد أن كانت مملكة تشينغ الصينية! بفضل إنشاء شركة ستاندرد أويل عام 1870م في اوهايو، ثم مساهمة جي بي مورغان في عام 1893م. لكن سياسياً أصبحت عظمى بعد عام 1945م، أي بعد الحرب العالمية الثانية! فقد ساهمت اتفاقياتها الاقتصادية وخاصة في مجال الطاقة على ثبات اقتصادها ونموه بعد الحرب، وتحول الإنتاج العسكري للإنتاج المدني، بفضل هذه الاتفاقيات. إذاً الصعود السياسي الأميركي أتى بعد صعود الاقتصادي، بعكس الإمبراطورية البريطانية؛ وذلك بسبب التوسع الاستعماري للإمبراطورية البريطانية. ومتوقع أن تزيح الصين أميركا اقتصادياً في عام 2029م، ويستمر التراجع الأميركي للوصول للمرتبة الثالثة في عام 2048م، أي بعد الهند، كما كان العالم في عام 1870م اقتصادياً! أي الصين ثم الهند ثم أميركا!! ونسأل ونقول ما أثر هذا التراجع الاقتصادي على أميركا سياسياً؟ وأثره عالمياً؟ وهل سوف يتم إعادة هيكلة ذلك؟ ما بين صعود أميركا اقتصادياً ثم سياسياً هو 55 سنة! وهل التراجع السياسي الأميركي سيكون في عام 2084م! تناولنا أعلاه العلاقة السياسية والاقتصادية للدولة الواحدة، لكن كيف هي العلاقات السياسية والاقتصادية معاً بين دولتين؟ فأكبر علاقة اقتصادية بين بلدين هي بين أميركا والصين الذي يمثل اقتصادهم معاً 40 ٪ من الاقتصاد العالمي، ويبلغ التبادل التجاري بينهم 700 مليار دولار، والفائض لصالح الصين بمبلغ 300 مليار دولار. والعلاقة السياسية بينهم مختلفة التوجهات من عدة جوانب، فلماذا هذا الاختلاف السياسي مع ترابط اقتصادي؟ وكذلك العلاقة السياسية بين الصينواليابان لم تبدأ إلا في عام 1972م، بسبب الخلافات السياسية، وحالياً الصين أكبر شريك تجاري لليابان بعد أن كانت أميركا، ويبلغ التبادل التجاري بين اليابانوالصين 350 مليار دولار، وأصبحت اليابان ثاني أكبر شريك للصين بعد أميركا! فلماذا العلاقة الاقتصادية قوية مع أن العلاقة السياسية حديثة ذات خلفية خلافية؟ بالمقابل نجد أن العلاقة السياسية الهندية الباكستانية تنعكس على العلاقة الاقتصادية بينهم! فلماذا هم عكس ذلك؟ وفقاً للأمثلة أعلاه نقول إن السياسة باب للاقتصاد بين الدول، فإذا تم فتحه يسير الاقتصاد منه، لكن نموه مرتبط بهذا الباب، وعندما يصل النمو لمراحل أكبر تذوب الخلافات السياسية وتحل محله الخلافات الاقتصادية، التي أخذت أهمية نسبية أكبر، والتي بدورها لا يقتصر تأثيرها على الطرفين فقط، وإنما يكون تأثيرها على غيرهم كلما زاد حجم اقتصاد البلدين؛ وبالتالي تتحول الخلافات من سياسية لاقتصادية ويصبح السياسي اقتصاديا! لكن إذا لم يتم فتح هذا الباب أو أُغلق؛ تظل الخلافات سياسية فقط، فيظل السياسي سياسيا. حالياً نعيش فترة ما قبل عالم متعدد الأقطاب الذي يقوم على أربعة أركان: الاقتصاد والتقنية والعلم والصحة. فالسياسي يقاتل من أجل أن يصعد بهذه الأركان؛ فيتحول دوره من سياسي سياسي إلى سياسي اقتصادي بقواعد التقنية والعلم والصحة تنتج الأمن والاستقرار.