خرج مفهوم النقد العربي من قيود الماضي إلى رحابة المستقبل بعد أن كان محصوراً بمفرده أو اثنتين دالتين على التمييز، فأصبح منهجاً ومشروعاً ومسلكاً وراصداً ومفسراً ومحللاً وذوقاً سليماً رفيعاً يبرز الجودة ويعليها ويرفض القبح والرداءة ويقصيها. وعن ثقافة النقد الأدبي وشروطه نجد أن: في كل عمل دنيوي إبداعي قطبان شهيران يحملان العمل الأدبي المنصوص عليه. طرفا هذا العمل أولهما المبدع، سواء أكان شاعراً أو ناثراً، والطرف الآخر ونهاية العقد لا واسطته هو الناقد الذي قد يقوم للتصويب والتوجيه وأحياناً ربّما التصدّي لهذا "التشظي المعرفي" إذا جاز الوصف، فأصبحت العلاقة تكاملية لا نموّ لطرف دون الآخر. وللعلامة الكبير ابن سلاّم خازن وحافظ التراث العربي قول دال وكافٍ ومنه إشارات إلى وجوب اكتمال ثقافة الناقد ودربته وشموليته الثقافية تفوق القراءة الأولية للنصوص الإبداعية. ثم إن الناقد مطالب بثقافة مواكبَة وذوق دقيق ورقيق محكوم بعقل وعاطفة، ولا غنى عن ثقافة شاملة تستوعب العصر وتحولاته والنمو النفسي والإبداعي للعمل المقدم كذلك، والثقافة صنوان متشابه وغير متشابه ثقافة اللغة وأسرارها ومقاييسها البلاغية وما يندرج تحت ذلك من أسلوب وقافية وموسيقى وتراكيب ورصد ثقافي تاريخي لما كان عليه حال الأدب وما آل إليه، وما قد يظهر ويشيع ويستحدث من أجناس وفنون تُستحدث عبر الأزمان ومعرفة تتعدى حدود النصّ إلى الأديب وظروفه وروافده ومذهبه وميوله وأيامه وآماله وآلامه. كل ما سبق قد يدخل تحت مظلة الثقافة العامة، والعموم جامع للعلوم، لا مانع حتى ترتقي هذه الثقافة إلى علم المنطق، وعلم المجتمع والمجتمعات، ويطوف الناقد بعوالم مختلفة في أفلاك الأدب ومراميه وأبعاده إلى أقصى حد، كل ذلك سيخضع للضمير العادل رقيب الهوى وحاجب التجنّي. ومن وظائف النقد أنها تحمل الطابع الثنائي، فالأول يحاكي شكل النص ومضمونه، والثاني ذو طابع عملي يحيط بثلاثية الأديب والقارئ والحياة الأدبية، أي المرسل والمستقبل وما بينهما، فلا غنى للمبدع من ناقد وليس هناك من نقد بلا إبداع، وأخيراً فالنقاد على تنوعهم يتمايزون بين النقد الذاتي، والموضوعي، والاعتقادي وكذلك التاريخي واللغوي، وهي الإطارات العامة للتنوع النقدي الذي يمارسه النقاد، أما حالة النقد قبيل العصر الحديث فقد عاش تحت إرهاصات إقليمية عانى منها العرب عموماً، والأدب خصوصاً، حتى عدّ النقاد العرب تلك الفترة بعصر الانحطاط الأدبي؛ لما آل إليه من ضعف عزاه الدارسون إلى عوامل ثلاثة أولها جهل المسيطر العثماني بلغة العرب، والعزلة التي فرضها، وسوء سياسته التي أدت إلى تفشي الجهل وضيق العيش، حتى بدأت جَذوات النور من أرض مصر العزيزة التي وفرت المناخ الفكري الملائم لكل جديد من مهاجرين -خصوصاً أدباء العرب ومثقفيها ومؤثريها- وانتشار معاقل العلم، وحركة الصحافة وبداياتها مثل: المقطم، والوقائع، ومطابع النهضة العربية التي لا نزال نعيشها في تلك الأقطار، حتى كان لتلك المرحلة راصدون شهيرون مثل: الشدياق، والشيخ المرصفي الذين عبروا ووصفوا وأجادوا في معالجة تلك المرحلة وتجديد ما اندثر وغاب، فكانت حركة البعث التي أنار سبيلها الشيخ المرصفي خير أداةٍ حررت الأغلال، وحررت النصوص، وصنعت الحراك النقدي، وعالجت قضاياه، ثم اكتملت الحياة النقدية الجديدة بظهور معاهد العلم والمعرفة، وهجرات الأدباء، والبعثات المتنوعة، وفيما يخص التقليد والمعاصرة واكتمال جهود حركة البعث كان هناك مجددون أرادوا مزج النهضة العلمية الأجنبية وما وصلت إليه من مواكبة لكل جديد يشمل أبعاد الحياة المادية بما في ذلك وصف الآلات والمخترعات؛ خوفاً منهم مما يجنيه التقليد على المقلِّد من ضعف. وللمعلوف كذلك رأي مختص وثاقب إذ أشار إلى مشكلة التقليد والضعف وأثرها وخشية أن يتأثر أسلوب الشعر بالركاكة، ومن ناحية ما يتعلق بموسيقى الشعر فقد تمسك رواد البعث فيها، بينما تحرر رواد التجديد من ذلك، وقد بين زغلول سلام حجتهم بأنها ذات قيود للشعر، فتقليد الغرب هو من أهم أسباب الخروج عن القافية، بينما نرى أن تجديد الأوزان هو الحل الوسط في هذه القضية. وما مراحل النقد الحديث إلاّ بين مجدد ومحافظ، والتجديد طبيعة بشرية نفسيّة لا مناص منها، وقد تأتي من أسبابٍ عدّة تؤثر على مُنتَج الأدب ونتاجُه. نزّال السعيّد