لو أراد صاحب فكر متطرف نشر سمومه واستدراج أتباع لتكوين تيار متطرف؛ فعلى من سيقع اختياره؟ عدّد إيريك هوفر أصنافا من الأتباع المتوقعين في كتابه المؤمن الصادق، وأجد أن أغلبهم يندرج تحت نوعين من العقليات إما العقل المحبط اليائس أو العقل الغاضب الحانق، هؤلاء أغرى العقول للاستدراج والانزلاق سريعا في التطرف الفكري ومنه إلى التطرف العنيف. الجماعات المتطرفة تعتني كثيرا بالمراقبة والرصد لمواطن سخط الجماهير ولأي طرح سلبي في مواقع التواصل، ليس للمساهمة في إيجاد الحلول بل لاستثمار الحدث وأدلجته، ولو تتبعت تاريخ الخطاب المتطرف في عقود مضت ستلاحظ أن من لزماته الدائمة المشاركة في كل حدث سلبي لانتهازه فيما يصب في مصلحة فكرهم. أكثر ثلاث دول سجلت مؤشرات مرتفعة للمشاعر السلبية في تقرير (غالوب) هي دول استهدفتها الجماعات المتطرفة وتغلغلت فيها حتى وصلت إلى مفاصلها أغلب الأفكار المتطرفة خرجت من مجالس تشكلت في سقوفها غمامة سوداء أمطرت الجلوس بالكآبة والسلبية والحنق وتمجيد الماضي لتحقير الحاضر والنقد للنقض, فلعبة صاحب الفكر المتطرف أن يأتي بالمحبطين والناقمين "أو يصنعهم" ثم يبث فيهم سمومه بعد أن يغلفها بأغلفة جاذبة ومعاني نبيلة. قبل قرابة عقدين قال لي أحد الفضلاء: إن فلاناً الخطيب من أخبث المتحدثين ,يعمل طوال خطبته بتركيز على شحن المشاعر وحشد المؤثرات من القصص والمقارنات بين الأمجاد السالفة بالأوضاع الحالية ثم ينهي خطبته ويخرج الناس دون ذكرٍ لما هيّئ الأذهان له! ثم ماذا؟ ماذا نفعل لنصبح أفضل؟ ما الحل؟ هذه حيلة خبيثة وسامّة لإيقاظ نوازع الشر في النفوس وإحداث كركبة في التفكير، وهذا كاف لهؤلاء كخطوة أولى هامة، هو كما قال عليه الصلاة والسلام: "إذا قالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهو أهْلَكُهُمْ " وفي رواية الفتح (أهلَكَهم) معناها: أنَّه تَسبَّب في هلاكهم؛ لما يترتَّب عليه من إحباط النَّاس وقُنوطهم. السلبية والسوداوية ولمس مواضع الألم وقود المتطرفين بالدرجة الأولى، لذا فأكبر عدو لهم العقل الإيجابي, ولن أكون مبالغاً إن قلت إن أكبر مكافح للتطرف هو نشر الإيجابية بكل معانيها: بالاحتفاء بالخير أياًّ كان، بالزهو بالحاضر المعاش، بتحسين الموجودات، بالنظرة التفاؤلية لكل مشكلة، بالحديث عن الحلول الممكنة، بالفرح والابتهاج والترفيه! قبل سنوات لاحظ أب فطن أن ابنه الشاب اليافع بدأ يتبنى بعض الأفكار المتطرفة، وبقرار سريع قام بتزويجه ووهبه مبلغا ليبدأ مشروعه التجاري وسيارة! لم تكن معالجة الأب سطحية من وجهة نظري، لقد كانت إيجابية وسريعة وأحدثت نوعا من الصدمة وبنت أهم أركان تكوين الشخصية المتوازنة: علاقة اجتماعية صحية، عمل يصنع هدفا، وسيلة تحقق نسبة رضا عن النفس وترقع شعور النقص بين أقرانه. محاربة سلبية الفرد ليست لسلامة صحته النفسية ودرء تداعياتها المجتمعية فحسب بل لتجفيف أول تربة تترعرع فيها نبتة التطرف الخبيثة، إن صاحب العقل المحبط يبعد خطوة أو خطوتين عن الخطر ولنتذكّر أنّ أغلب الحركات الراديكالية المتطرفة أصحابها من المحبطين، لذا تنبّهت بعض حكومات المنطقة لهذا وعلى رأسها المملكة العربية السعودية, من خلال رصد أجهزتها لهذه المؤشرات وإيجاد الحلول السريعة لها، وبرأيي هذه أحدى الأهداف الاستراتيجية الضمنية لرؤية المملكة التي تسعى بمنظوماتها وبرامجها لتكوين شخصية المواطن المتزن الناجح المحصن فكريا. أخيراً.. لا تعتقد أن الحديث عن التطرف تقادم أو تجاوزه الطرح إلى غيره، سيبقى التطرف ببقاء أصحاب الأغراض الخبيثة وستبقى الأفكار المتطرفة لها هالة مغرية وجاذبة كطبيعة كل شيء ضار في هذه الحياة.