شوق ومحبة، قوتان تجبراني على الحديث عنه، بين فينة وأخرى، كيف لا، والشوق إليه يكاد ينفطر منه قلب المحبين، وما أكثرهم، لست إلا واحدا من ملايين، بل مئات الملايين الذين يحبونه، وبكل غال ونفيس يفتدونه. كلما سلوت عنه بملذات الدنيا وزينتها، ذكّرني به كل شيء حولي، فلكل شيء له فيه تذكار.. ولست أنكر تعصبي له، بل إني أراني بتعصبي هذا محسنا، فبذا أفاخر، وعليه أجادل وأناظر. إني والذي نفسي بيده لا أجد في صحيفة أعمالي شيئا يوازي حبي له، وشوقي إليه، وهو الذي أرجو به النجاة يوم الدين، وإني لأزعم، وأحلف غير حانث، لوددت رؤيته بعمري كله، وإن عذاب البعد عنه لأشد في رأيي من التحريق بالنار، عياذا بالله من كليهما. وما اللسان إلا ترجمان ما في القلب عنه حين ينطق، وإنه لعاجز عن أن يعبر عما يختلج فيه من شوق ومحبة. فمن أين ترى نبدأ الحديث عنه، وهو كل حديثنا، هو المبتدأ والخبر، هو الاسم والفعل، هو الضمير الغائب والمستتر، هو الضمير المخاطَب والمتكلِّم، وهو اسم الإشارة للقريب وللبعيد، هو كان وأخواتها، وهو الحروف والكلمات، هو النثر والشعر. هو البشر الكامل خَلقا وخُلُقا، وهو النبي المفضَّل، والمصطفى المرسَل. هل أحدث عن تواضعه، وهو الذي بلغ مبلغا لم يصله الملائكة المقربون، عند سدرة المنتهى، فلما رجع إلى الأرض فكأنه ما عرج به، ولم يسمع كلام الله كفاحا، ولم ير الأنبياء والمرسلين، فما زال هو العبد المنيب، يلهج في كل سجود له بدعوات التثبيت: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك! رجع ينام على الحصير، ويأكل الدقل والشعير! ويدخل الرجل لا يعرفه وهو بين أصحابه فيسألهم: أيكم محمد؟ فأي رجل هذا الذي يصعد به إلى أعلى نقطة تحت عرش الرحمن، فيعود ونفسه لم تتغير، ولم تتكبر؟ ولو مضيت أتحدث عن تواضعه بقية يومي لما انتهيت. فعن شجاعته أتحدث؟ قال علي رضي الله عنه : كنا إذا احمر البأس ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول الله، صلى الله عليه وآله. فما يكون أحد أدنا من القوم منه. ولا جرم، فهو معلم الشجعان، وقائد الفرسان، وإذا قال علي وهو من هو في الشجاعة والبسالة، عن الأصحاب الذين أبلوا البلاء الحسن في الله، وجاهدوا في سبيله، إنهم يتقون به، فحسبك بهذا دليلا على أن شجاعته عليه الصلاة والسلام كانت مضرب المثل. فعن أخلاقه أتحدث؟ فعن أيها، عن الوفاء؟ عن الأمانة؟ عن الصدق؟ عن الحلم؟ عن بشاشة الوجه، والتبسم؟ كل ذلك كان فيه القدوة الحسنة، بقي وفيا لخديجة رضي الله عنها، حتى إن عائشة رضي الله عنها وهي لم ترها، ولم تجتمع بها غارت منها! أما الأمانة فيكفيك أن صناديد قريش وهم يحاربونه، ويجتمعون لقتله والتخلص منه ومن دعوته، ويرمونه بالكذب والسحر والكهانة، ومع عداوتهم الشديدة له، إلا أنهم كانوا يستأمنونه على ودائعهم وأموالهم، حتى إنه أبقى عليا رضي الله عنه ليلة الهجرة ليرد الودائع! فبالله عليكم أي أمانة أعظم من أن يأتمنك عدوك اللدود وأنت في حال الحرب معه، والمساجلة بينكم على أشدها فيستودعك ماله ووثائقه وأغراضه الثمينة؟ ألم أقل لكم إن الحديث عنه شيق، والوقت يسرقنا دون أن نشعر، فما عسى لائما أن يلومني في حبه، أو يتعجب من شوقي إليه؟ لكنّ مساحة المقال ضاقت، فلنكمل حديثنا عنه في المقال المقبل إن شاء الله. هذا، والله من وراء القصد.