يضطر الكثير من الناس إلى الاستدانة أو الشراء بالتقسيط من أجل تحقيق غاية يعدونها ضرورة من الضرورات الحياتية، مثل: امتلاك منزل أو سيارة أو تغطية مصاريف زواج وما شابهه من تلك الضرورات، والتي لو بقي الإنسان يجمع ويدخر فإنه سيظل سنوات دون تحقيق ما يصبو إليه، وقد عرف الناس الاستدانة منذ القدم، وفي بلادنا لجأ الكثيرون وقبل نشأة البنوك التي تعطي القروض بسداد ميسر إلى الاستدانة من بعض التجار الموسرين والمتمرسين في طرق التمويل، لكنهم يشترطون أرباحاً خيالية أخذت بهم إلى عالم الثراء الفاحش في سنوات قليلة، كانت الأرباح في معظم القروض تلامس المائة بالمائة أي الضعف، أمّا الضمانات فقد كانت بالرهن، فلم يكن الناس يعرفون الرواتب والخصم منها كالبنوك حالياً، لذا تجد من يأخذ قرضاً من هؤلاء الباعة يرهن في مقابله منزله أو مزرعته أو مواشيه أو كل ماله ثمن، وقد كان سداد الدين دفعة واحدة فإذا أخذ مثلاً مقترض من التاجر بضاعة بقيمة مائة ألف ريال إلى الحول -أي يحل سدادها بعد سنة- فإنه يسدد مائة وخمسون ألف ريال دفعة واحدة. أكياس الأرزاق وفي العاصمة الرياض اشتهر سوق تباع فيه المواد الغذائية والتموينية يطلق عليه اسم "الجفرة"، ويقع جنوب "المقيبرة"، ويحتوي هذا السوق على دكاكين صغيرة متراصة مليئة بأكياس الأرزاق، مثل: الأرز والسكر والقهوة والهيل، فما إن يدخل من يريد الاستدانة ويحدد مقدار ما يريد من المال إلاّ ويجد المال جاهزاً، حيث يتم البيع العشرة بخمسة عشر فيعطيه مثلاً مائة ألف على أن يردها بعد عام مائة وخمسين ألف ريال، لكنه لا يعطيه مالاً مقابل مال، بل يبيعه بضاعة مقابل المال كأن يبيعه مثلاً عدداً معيناً من أكياس الأرز بقيمة مائة وخمسين ألف ريال، ويقول للمشتري: "ضع يدك على أكياس الأرز وقل رضيت واشتريت"، فيقول ذلك، ومن ثم يكتب عقد البيع ويكتب فيه أن الرهن في ذلك هو منزله الواقع في مكان كذا ويحدد الموقع ويتم الاحتفاظ بالصك لدى البائع، أو أن يأتي له بكفيل غارم وكفيل آخر حضوري، إن لم يكن لديه ما يرهنه وحتى يستوفي حقه من هؤلاء الكفلاء في حال تعثر السداد، بعد ذلك يبيع المشتري البضاعة مرة أخرى على تاجر آخر بثمن أقل من سعرها، وإن لم يجد من يشتري فقد يقوم ببيع ما اشتراه على البائع نفسه بمبلغ أقل من سعرها فيسارع هذا التاجر بفتح خزينة النقود الحديدية ويخرج له القيمة عداً ونقداً فيأخذها وينصرف، وبهذه الطريقة يقع كثير من الباعة والمشترين في المحظور وهو بيع "العينة" الذي هو وسيلة من وسائل الربا المحرم شرعاً، إما لجهل أحدهما أو لحاجة المشتري الذي لا يفكّر إلاّ بالمال وكيفية الحصول عليه، لكن الغالبية من الباعة يحضر طرفاً ثالثاً ليشتري البضاعة من صاحبها ويدفع له ثمنها لتنتفي شبهة البيع المحرم، والعجيب في الأمر أن هذه الدكاكين تكون السلع فيها ثابتة لا تتحرك ولا تنقل من مكانها لسنين طويلة، وربما كانت غير صالحة للأكل! منافسة محمومة وبعد توسع المعاملات والتطور الذي شهدته البلاد في جميع المجالات فقد اختفت "الجفرة" التي كانت مقصد الكثيرين ممن يبحثون عن حل مشكلاتهم المادية بالدّين وصار مكانها مجرد ذكرى وحل محلها جفرة جديدة ليست أقل جشعاً، ألا وهي البنوك التي صارت تعطي عملاءها القروض الآجلة وتعطي فترات سداد طويلة تمتد من خمس سنوات إلى 20 سنة بنسب تتفاوت من بنك إلى آخر، في ظل منافسة محمومة من أجل الاستحواذ على أكبر قدر من أصحاب الحاجة إلى التمويل من أجل توفير قرض لشراء منزل أو سيارة أو الإقدام على الزواج وغيرها من ضروريات الحياة، وسهلت تلك البنوك من عملية الإقراض حيث تعطي العميل القرض بضمان راتبه فقط دون الحاجة إلى كفيل غارم، حيث يتم تحويل راتب العميل إليها وتخصم القسط الشهري حتى قبل نزول الراتب بأيام لضمان حقها، وقد تستغرق مدة الموافقة على القرض وإتمامه يوماً واحداً، بينما يكابد المقترض سنين من عمره في سبيل تسديد هذا القرض الذي يحمل الكثير من الفوائد لكنها أقل بكثير من فوائد وجشع تجار الجفرة السابقين. تحسين معيشة وأغرت تسهيلات البنوك المتعاملين لتحسين معيشتهم أو دخلهم أو تأمين سكنهم، لكن الغالبية منهم بات يقترض من أجل الكماليات، وقد كانت البنوك تعطي قروضاً بضمان الراتب، حيث تقتطع ثلث الراتب فقط، ومن أخذ قرضاً فإنه لا يستطيع أن يأخذ قرضاً آخر حتى ينتهي من تسديد ما عليه من أقساط، فعندما يتقدم العملاء للمصارف وشركات التمويل يتم رفضهم لمنحهم التمويل من المصارف منعًا لزيادة الأعباء المالية عليهم، فيضطرون للذهاب لأشخاص غير مرخصين، ويمنحونهم مبالغ بضمان أوراق تجارية من شيكات أو سندات بنِسَب فائدة عالية تتجاوز فائدة البنوك مما حدا بالكثيرين بالاقتراض والاستدانة من التجار والذين لا يكترثون بما على المشتري من التزامات ولا حتى يسألونه عن التزاماته بل على الفور يقرضونه المال بفوائد طائلة ويطلبون منه كفيلاً، وبعد مدة يجد صاحب القرض نفسه غير قادر على الوفاء بالتزاماته وسداد ما عليه من ديون فيقوم بالاقتراض مرة أخرى ليسدد ما عليه من قرض قديم فتتضاعف عليه المبالغ فلا يستطيع حتى الصرف على نفسه ومن يعول، حيث يتقدم الدائنون برفع دعوى قضائية عليه لتسديد ما عليه من ديون، وعند عدم مقدرته فإن مصيره السجن وإيقاف الخدمات عنه حتى يتمكن من سداد ما عليه من ديون. تنظيم وحماية ونظراً لانتشار هذه الظاهرة بكثرة فقد صدر قرار مجلس الوزراء بإلغاء نظام البيع بالتقسيط، وإيقاف إصدار تراخيص التقسيط أو تجديدها، والاكتفاء بنظام مراقبة شركات التمويل، بحيث لا يحق لأي شخص أو شركة البيع بالتقسيط أو التمويل إلاّ بموجب رخصة من البنك المركزي، وجاء الهدف من إلغاء نظام البيع بالتقسيط لتنظيم سوق التمويل وممارسة الأنشطة التمويلية، وتفادي ذلك التفاوت في المتطلبات التنظيمية لأنشطة تندرج ضمن مفهوم التمويل، وحماية النظام المالي، وتنظيم سلوك الإقراض العادل والمسؤول، والحد من التعاملات الخاطئة وغير العادلة، وحماية المستهلكين، كما سنت عقوبات لمخالفي البيع بالتقسيط حيث يشترط نظام البيع بالتقسيط في مادته التاسعة أن تزاول هذا النشاط على وجه الاحتراف شركة أو مؤسسة مرخَّص لها من جانب وزارة التجارة والاستثمار، وعقوبة من يخالف شروط الترخيص ومزاولة النشاط تتمثل بغرامة لا تزيد على 100 ألف ريال، تضاعف في حالة العودة مع جواز الحكم بإيقاف النشاط محل المخالفة مدة لا تزيد على ستة أشهر. توعية وترشيد وبات من يريد قرضاً في وقتنا الحاضر يتوجه إلى أحد البنوك المحلية ومن ثم التقدم بذلك، حيث يتم تقديم قرض له حسب إمكاناته المادية وبما يستطيع من سداد، وإذا أراد الحصول على قرض آخر أو شراء سلعة بالتقسيط كسيارة أو أثاث أو كماليات فإنه يتقدم إلى شركة تقسيط معتمدة، حيث يتم التأكد بمقدار راتبه وهل يوجد عليه التزامات مالية، ويظهر ذلك جلياً، حيث يتم قراءة سجلات العميل الائتمانية من نظام "سمة" ونظام التمويل تحت إشراف "ساما"، فإن وجد أنه يستطيع الوفاء والسداد وإلاّ تم رفض طلبه منعاً لزيادة الأعباء المالية عليه، وبذلك تم حل مشكلة عدم الوفاء بالديون وتعرض المتعثرين إلى التوقيف أو إيقاف الخدمات، كما أن الوعي للترشيد بالقروض الاستهلاكية والتوعية بأضرارها الاقتصادية والاجتماعية بات ينتشر في أوساط الناس بعد توضيح مخاطر القروض الاستهلاكية غير الضرورية ودعم وتعزيز المفهوم الاستثماري والادخاري لدى الأفراد والأسر، حيث يسعى الأغلبية إلى التخلص من الديون والحاجة إلى الاقتراض حتى ينعموا بحياة هانئة مستقرة لا يكدرها مطالبة الآخرين بأموالهم في كل وقت وحين، حيث إن الشخص الذي يعيش حياته دون الحاجة إلى القروض يعيش حياة سعيدة، لذا حذر الشعراء من الوقوع في براثن الدين والقروض وشراكها التي تُكتف المرء وتنغص عليه حياته، وقد أجاد الشاعر علي المسلم في التحذير من الدّين، حيث قال: لا وهني اللي من الدّين مرتاح يرقد ونفسه دايمٍ مسفهله حر بماله يصرفه وين ما راح مرتاح ما عنده ديونٍ تذله عسى حياته كلها أفراح بأفراح وأيضاً غرابيل الزمن ما تدله عز الله إن الدّين للحال ذباح واللي وقع به عايشٍ في ممله عايش حياته كلها هم واجراح لا راح هم جاه همن يتله يا الله يا للي ترفع الحظ لا طاح يا واحد يا منشي الكون كله تجلي هموم القلب والدّين ينزاح ينزاح يا لمعبود دقة وجله لجل اهتني في باقي العمر وارتاح والعسر حبل يا كريم تحله. الحاجة إلى الأموال أجبرت البعض على الاقتراض سوق الجفرة بالرياض شهد صفقات البيع بالتقسيط في الماضي أكبر خطأ أن تأخذ قرضاً من أجل شراء الكماليات نحتاج إلى تعزيز مفهوم الادخار لدى الأفراد والأسر