منذ إنشائه في العام 1995 من قبل منظمة الشفافية الدولية ومقرها مدينة برلين، يظل (مؤشر مدركات الفساد) الذي تصدره المنظمة في بداية كل عام عن العام الذي قبله، هو التقرير العالمي الأكثر واقعية وعدالة في العالم من بين تقارير عدة تصدرها منظمات كثيرة منتشرة في العالم لقياس مستوى الفساد والنزاهة، وذلك استناداً إلى معايير كثيرة، أهمها استقلالية المنظمة وعدم خضوعها لسلطة أي جهة أخرى، واستقائها عناصر مؤشرها من مصادر عديدة تعد محايدة، مثل: تقييمات الخبراء، واستطلاعات الرأي، وتقارير فروع المنظمة المنتشرة في العالم، ويقول مؤشر مدركات الفساد عن العام 2023 الذي أصدرته المنظمة عن وضع الفساد والنزاهة في الدول التي يشملها المؤشر وعددها (180) دولة: إن معظم دول العالم ترزح تحت وطأة الفساد، ولم تحرز أي تقدم يذكر في ميزان النزاهة، وإن ثلثي الدول لم تبلغ فيها النزاهة 50 % من المؤشر الذي يقيس معدل النزاهة والفساد بمعيار (1) للأكثر فساداً، و(100) للأكثر نزاهة، بل إن معدل دول العالم مجتمعة تقف عند (43) من مئة من المؤشر، وهو ما يمثل خيبة أمل وفشلاً لجهود المنظمات والدول العاملة في مجال مكافحة الفساد، وفي مقدمتها منظمة الشفافية الدولية. وتتصدر الدانمارك بمعدلها البالغ (90) من مئة، قائمة دول العالم في النزاهة وذلك للعام السادس على التوالي، تليها كل من فنلندا ونيوزيلندا بمعدل (87) و(85)على التوالي، وفي المقابل تأتي أربع دول عربية مع الأسف، كأكثر دول العالم فساداً، وهي كل من: الصومال (11) من مئة، وكل من سورية وجنوب السودان (13) واليمن (16)، كما سجل (23) بلداً من بينها بعض الديموقراطيات رفيعة المستوى مثل: آيسلندا وهولندا والسويد والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى بعض الدول الاستبدادية مثل: إيران وروسيا وطاجيكستان وفنزويلا أدنى مستويات لها تاريخياً في المؤشر، في الوقت الذي كان ينتظر أن تحقق فيه مستويات أفضل. وبالنسبة للدول العربية فيأتي في مقدمتها في ميزان الشفافية وفق تقرير مدركات الفساد، كل من الإمارات وقطر والمملكة العربية السعودية، حيث جاءت في الترتيب بين دول العالم (26) و(40) و(50) على التوالي. وهناك مع الأسف سبع دول عربية أتت في ذيل قائمة دول العالم في الترتيب، وهي: العراق ولبنان وجزر القمر والسودان وليبيا واليمن وسورية والصومال. والمتأمل في تقرير منظمة الشفافية لا بد له أن يدرك أن ثمة سببين رئيسين لاستفحال الفساد واستيطانه في الدول، هما: الحروب وانعدام الاستقرار السياسي، ويظهر ذلك واضحاً في نتائج التقرير خاصة بالنسبة للدول العربية التي عانت من الانقلابات السياسية والحروب. ومن متابعتي المستمرة لتقارير منظمة الشفافية الدولية، وتجربتي في معايشة قضايا الفساد ومكافحته، أستطيع القول: إنه لن يحدث تطور في المستقبل القريب في وسائل مكافحة الفساد أو تحسن في مستوى الشفافية على مستوى العالم، لأن منظمة الشفافية الدولية لا تملك الوسيلة التي تستطيع إجبار الدول بها على تبني سياسات الإصلاح، إذ هي تترك ذلك لحكومات الدول، بينما تلك الحكومات قد تكون هي السبب الرئيس للفساد في كثير من الدول والشاهد الأكبر لذلك هو تقارير المنظمة التي تطلقها سنوياً ولا تلقى أذناً صاغية من معظم حكومات الدول، ومن جهة أخرى فليس هناك أي تنسيق أو تعاون ملحوظ بين منظمة الشفافية وغيرها من المنظمات الأخرى في مجال مكافحة الفساد، وخاصة المنظمات ذات التأثير كالمنظمات المانحة للقروض والإعانات كالأممالمتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والتي من المفترض أن تتعاون على الربط بين شروط منح القروض والإعانات من قبل الدول المانحة، وبين تحقيق القدر اللازم من التحسن في مستوى الشفافية من جانب الدول الممنوحة، ويمكن بهذه الطريقة أن يحصل التحسن التدريجي على مدى سنوات، ويعد هذا التوجه ضرورياً باعتبار أن الفساد يحد من الاستفادة من الإعانات والقروض، ويعيق تحقيق أهدافهما، والمؤمل أن تتبنى منظمة الأممالمتحدة عقد مؤتمر لها وللمنظمات المانحة بمشاركة منظمة الشفافية الدولية لإقرار المعايير والأسس اللازمة للربط بين منح القروض والتحسن في ميزان الشفافية. والله من وراء القصد. *رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الأسبق