ما إن تلتفت الذاكرة الجمعية تلقاء أيقونة «ذكرى التأسيس»، حتى ينفتح الخاطر بشرًا وترحابًا على نافذة تطلّ منها صور مشرقة، ومواقف باعثة على الفخر والاعتزاز، ومجاهدات عصية على البِلى والنسيان، لحقبة من تاريخنا المضيء، جسّدت كل معاني الفداء، وسطّرت في سفر التاريخ الأبلج صفحات مشرقة بالعطاء، فمثّلت في مجملها رحلة حضارية غنية بالأحداث والمحطات التاريخية؛ رحلة انطلقت قبل ثلاثة قرون، وتحديدًا في العام 1727م، حينما كانت الدرعية عاصمة لدولة جديدة أسسها الإمام محمد بن سعود -رحمه الله-، فأضحى رمزًا للوحدة وعنوانًا للقيادة. لقد انطلقت الدولة السعودية منذ تلك اللحظة المباركة في مسيرة طويلة، تخطت فيها العقبات والتحديات برؤى ثاقبة وإرادة قوية؛ فقد نجح الإمام محمد بن سعود في بسط الأمن وتحقيق الاستقرار المنشود، بعد عقود من التيه والتشرذم وانفلات الأمن، فرسم ملامح الهيكل الإداري للدولة السعودية الأولى، وبهذه البداية الرائعة عرجت أولى خطاها في سماء العلياء والمجد. ولهذا؛ فإن يوم التأسيس ليس مجرد ذكرى نحييها بروح عفوية، وتكرار نمطي، بل هي لحظة نقف فيها موقف الوعي الباصر، والإدراك البصير بعظمة المنجز، لنتقدم بالتحية الواجبة والمتعينة للقادة والحكام، الذين سطَّروا بدمائهم صفحات الفداء لأجلنا، ورسموا بعقولهم الفصول الأولى لهذه السلسلة الطويلة من ملاحم عهود امتدت على مدار ثلاثة قرون. ومع قدوم هذا اليوم، يتساءل المرء، في موقف الغبطة والابتهاج والسرور والدهشة أيضًا: كيف وصلت الدولة السعودية إلى ما هي عليه اليوم؟ إن الإجابة على هذا السؤال بعمق تستغرق زمنًا وجهدًا، ومساحة لا تستوعبها هذه العاجلة، فلا مناص إذًا من القفز فوق حاجز الحقب التاريخية، والانتقال بعقارب الساعة إلى الدولة السعودية الثانية، التي بدأت في عام 1824م، فدونك المشاهد التي تجسّد نموًا متسارعًا بقيادة الإمام تركي بن عبدالله - رحمه الله -، الذي أسَّس لحكم رشيد عاصمته الرياض، وهنا بدأت رحلة الحضارة والتقدم؛ إذ تفرغت الدولة لتطوير البنية التحتية ورعاية المجتمع. ثم انتقل معي سريعًا حيث أسفر صُبْح الدولة السعودية الثالثة عام 1902م بقيادة الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن -طيب الله ثراه-، وهنا هيّأ نفسك لعهد شهد معتركات شاقة وعقبات كؤود، فقد جمع المؤسس شعث القبائل المتناحرة، ولّم شمل الجزيرة العربية تحت راية التوحيد الخالدة، وسرعان ما انطلقت على إثرها نهضة حضارية، ونثر بذور ريادتها مبكرًا، فأسس المدن الحديثة، ونظَّم الدولة على أسس إدارية واقتصادية متطورة. وبفضل رؤيته الحكيمة، نمت المملكة بخطى ثابتة نحو التقدم والازدهار. وفي عهدنا المشرق، تواصل المملكة تحقيق إنجازات جديدة، بفضل حنكة ورؤية مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وسيدي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله-، الذين يسعون جاهدين لتعزيز التقدم والتنمية في مختلف المجالات. لقد عكس العصر الجديد استراتيجيات طموحة لمستقبل المملكة، تجلت بوضوح في رؤية السعودية 2030، التي أحدثت تحولًا نوعيًّا في كافة الميادين؛ حيث ركزت على تعزيز الاقتصاد، وتحسين الحياة الاجتماعية والتنمية المستدامة، ورقمنة القطاعين الاقتصادي والصحي، وتعزيز دور المرأة في المجتمع، والارتقاء بجودة الحياة على المستويات كافة حتى جنى كل مواطن ومقيم أثر هذه النهضة المباركة، إضافة إلى تعزيز دور المملكة عربيًّا وإقليميًّا وعالميًّا. إننا اليوم نفتخر بأن مملكتنا توفر أفضل مستويات الرعاية الصحية للإنسان على هذه الأرض المباركة، من خلال تطبيق أحدث التقنيات الطبية وتوفير رعاية شاملة للمرضى، ما يسهم في تعزيز مكانة المملكة كوجهة رئيسة للرعاية الطبية في المنطقة. إن تطور المملكة العربية السعودية على مر العصور يعكس قوة الإرادة والتفاني في تحقيق التقدم والازدهار، ويعكس أيضًا الالتزام ببناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة، ومن خلال الاحتفال بذكرى يوم التأسيس نستذكر جذورنا ونلمس روح الوحدة والتلاحم التي شكلت مسيرتنا، لكونها ذكرىً تجسّد الإرادة في البناء، وتشعل شرارة الأمل والتطلع نحو غدٍ مشرق، في ظل قيادة حكيمة وطموحة تتطلع لتحقيق الرفاه والتقدم لجميع أبناء الوطن.