في روايتها الأخيرة «العوسج» الصادرة عام 2022 عن دار الأدب العربي، تلجأ الجوهرة الرمال إلى معجم السلوكيّات الشعبيّة لبناء حكائيّ واقعيّ محفوف بالأسى النفسي والاجتماعي، ولعلّ نقطة القوّة في هذه الرواية ظهرت حين حصرت الكاتبة جلّ تركيزها على الشخصيّة الراوية الأساسيّة لترسمها ثابتة بصفاتها ضمن نطاق اجتماعيّ متحوّل ومفاجئ. الشخصيّة بين العقد وخلق الزمن لم يكن على بول ريكور الذي نظّر بنبرة نقديّة للتأويل والسرد أن يفصل الزمن عن الحالة الإنسانيّة، فكلاهما متلازمان في أيّ عمل خصوصًا إذا كان أدبيًّا، ففي رواية العوسج، تخلّت الكاتبة عن المسار الزمني المعروف (الماضي، الحاضر، والمستقبل) لتركز على داخل «جبران» الشخصيّة التي سمحت لها عقدها ببناء عالمٍ موازٍ، يبدأ بالتوهم ولا ينتهي بالأرق والذنب، والحقّ أنّ الجانب الفرديّ في علم النفس قد اتّخذ بدوره مسارًا واسعًا دراسيًّا ممّا جعله مدرسة توازي علم النفس الجماهيري، فالجانب الثقافي والاجتماعي والنفسي للفرد حضر بمجرّد جعل جبران الصوت الروائي الأوحد المتكلّم على مدى مساحة النًّص، وبفعل الأوهام والتكهنات والجرائم ومحاورة الجنّ، صارت الشخصيّة تكتب نصًّا موازيًا له زمن متتابع لا ينتمي إلى الأزمنة المعروفة، وهذا ما يسجّل للرمال، لكنّ الفخّ الذي تكشّف مع عمليّة توليف الزمن الجديد تجلّى حين دخل كمد العشيقة المقبلة من عالم الجن، دون فاصل أو تمهيد، ولعلّ التمهيد الوحيد المضمر كان حالة جبران الانفعاليّة المتوقّع منها كلّ شيء، ممّا عرّض الزمن المتخيّل أو المبتكر إلى مطبّ كان يمكن للكاتبة أن تتفاده لو استمرّت وتيرة الوصف على حالها وتبعها فيما بعد الحوارات المتقطّعة بين العشيقة المتخيّلة وجبران. لم يحل بين مسار الزمن وبناء الشخصيّة باتقان هوّة كبيرة، خاصة وأنّ الجانب الثقافي للكاتبة ظهر بسلاسة حين ربطت مأساة الراوي بمأساة سفّاح ألماني ورثها أب جبران وأورثها لابنه، ليكون بذلك الراوي بعقده النفسيّة قد كتب مساره بجعل الحاضر زمنه غير التقليدي والمباشر. المكان والرؤية إلى الواقع استفادت الرمال من المكان كتقنيّة روائيّة تساعد الشخصيّة في بناء نصّها، فاعتمادها على الأمكنة المغلقة (البيت/ الشركة/ الغرفة...) عكس هدف الكاتبة الأساس من خلق هذه الشخصيّة وهو تحديد الرؤية إلى الواقع، فالمكان المغلق، المقيّد الخالي في أغلب الأحيان من شخصيّات سوى الراوي قد أتى ملائمًا لحالته القلقة الراغبة في النوم والقتل في سبيل النوم، وهي حالة تعدّ غير مألوفة لكنّها قابلة لتكون أكثر واقعيّة، وإذا كان اغتراب الذات وفقًا لمحمد سليم هياجنة في كتابه «الاغتراب في القصيدة الجاهليّة « مبنيّ على اضطراب في الشخصيّة العصاميّة، فإنّ شخصيّة جبران العصاميّة مضطربة كونها تعتمد على الجثث والموت الرحيم في سبيل بقائها، الأمر الذي يعكس قدرة الكاتب على هدم الطبيعة الإنسانيّة العامة المتعارف عليها من سلوكياتها البديهيّة أو المرضيّة وخلق المساحة المرضيّة الجديدة، لواقع صاخب يحاول بعضنا البعض من خلاله تجاوز سواه بقتله في مخيّلته في سبيل النوم. يأتي المكان أيضَا مسرحًا دراميَّا لتجلّي الشخصيّة وتلاشيها، فالشخصيّة كما متعارف عليه تبوح لتكتمل، أمّا الجوهرة الرمال فتمرّدت على هذه القاعدة جاعلة من جبران شخصيّة تعتاش على الأفعال السريّة والصمت والكبت وربّما الحلم. حاولت الكاتبة جعل الجنيّة والمشعوذة عاملين يساندان الشخصيّة والنص، والتساوي بين الشخصيّة والنص هنا استثنائيّ؛ لأنّ جبران كان يصيغ حياة مغايرة للواقع، لكنّ وجودهما كان محفوفًا بخيال مفرط، جعل النظرة الى الواقع مبنيّة على تسويغ ظروف العقد دون الإتيان برواية صحيّة بديلة، وهذا شكّل مطبًّا نصيًّا نتيجة أحاديّة الصوت الروائي. لم يكن «العوسج» مجرّد عنوان لرواية يسوّغ في النّص، بل بداية لتشكيل جذور لعالم صعب مبنيّ على شخصيّة تتيح لنفسها بناء عالمها، ممّا أعادنا إلى لا مركزيّة العقل التي ظهرت كعامل تفكيكيّ منذ اختيار الكاتبة الاضطراب عاملًا لبناء نصّ روائيّ. نبيل مملوك