لم يكن للتجارة العالمية تجربة قاسية، بعد الحربين العالميتين والكساد الاقتصادي الكبير، أكثر مما مرّ عليها خلال الأعوام القليلة الماضية، فقد كانت بداية الحرب التجارية (الفعليّة) بين قُطبي العالم بداية الشرارة، زادتها اشتعالاً جائحة كورونا، ثم الحرب الروسية الأوكرانية، هذا وبلا شك كان يحتضنها، التحديّ الأزليّ، عدم استقرار منطقة الشرق الأوسط، تحديداً مضيق باب المندب. في منظمة التجارة العالمية، أول من رمى بالأحكام المُلزمة، الأعضاء المؤسسون لها، فزاد وتسارع التشكيك في نموذج عملها، وزادت النزاعات، فتصاعد استخدام المعايير الفنية التي تحدُ من التجارة Technical Barriers to Trade، وتحديات النفاذ للأسواق Market Access، فمن 2015 حتى 2022؛ تضاعفت المخاوف التجارية trade concerns - تحديداً المتعلقة بالأمن الوطني - والتي يُبديها الأعضاء إلى تسعة أضعاف، وزادت كميات الدعم والإعانات التي تقدمها الحكومات لشركاتها؛ مما أدى إلى ارتفاع المعايير الحمائية المأخوذة من قبل الأعضاء، وأصبح حل النزاعات التجارية يتم عن طريق القيادة والإرادة السياسية، دون اللجوء للأحكام المُنظمة، صاحب ذلك انخفاض في دقة وشمولية بيانات التجارة العالمية. في العام 2023، انخفضت التجارة العالمية، فقد كان انخفاض الطلب من الدول المتقدمة، وانخفاض الأداء في اقتصادات شرق آسيا، وارتفاع مستويات الديون، وتنامي هشاشة كثير من الاقتصادات، من أهم المؤثرات على حجم التجارة العالمية، علاوة على ما تم ذكره من مُسببات رئيسة سابقاً، ولكن أكثر ما يشغل بال المسؤولين الحكوميين، وتنفيذيي القطاع الخاص، في جميع العالم، هو مسألة التنبؤ بالعام 2024، وما يليه من سنوات قليلة مقبلة. يبدو أن الالتزام بأحكام منظمة التجارة العالمية، سيكون في أقل حالاته، كما سيقل الاعتماد عليها في حالات النزاع التجاري مع تزايده، وستبقى الإرادة السياسية، هي الفيصل في احتدام الصراع أو احتوائه، كما سيكون هناك تزايد في الخلافات والاختلافات بين التكتلات الإقليمية الموجودة؛ مثل مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي نظراً لتعارض واختلاف المصالح، يصحب ذلك نشوء تكتلات اقتصادية وتجارية جديدة، غير مرتبطة بالإقليم الجغرافي، وإنما تعتمد على المصالح الإستراتيجية، بالنسبة لاتفاقيات التجارة الثنائية الحُرّة ستكون ملاذاً للعديد من الدول، أولها؛ عدم الالتزام ببعض أحكام منظمة التجارة العالمية بشكل نظامي، وثانياً؛ ضمان نفاذ سلعها وخدماتها للأسواق المستهدفة بشكل موثق نظامياً. كان ذلك من الجهة النظامية والتشريعية للتجارة، ولكن للعوامل الاقتصادية دور وأثر كبير، ويبدو أن عام 2024 سيكون صعباً لعدد من المُسببات؛ منها استمرار ارتفاع التضخم وأسعار السلع عالمياً (الطاقة والغذاء والمعادن) عمّا كان عليه المتوسط قبل جائحة كورونا، كذلك هشاشة بعض الاقتصادات والتي ارتفعت فيها الديون وأسعار الفائدة لمستويات عالية، ولكن قد تكون احتمالية انخفاض مؤشر الدولار - العملة الأساسية للتبادل التجاري -، وانخفاض تكاليف الشحن عامل موازنة وتخفيف لحديّة المُسببات الأخرى.