يجعل عنوان رواية موتٌ صغيرٌ لمحمد حسن علوان عقل القارئ مسكوناً بالأسئلة؛ فما الموت الصغير الذي يقصده المؤلّف؟ وهل ثمَّة موتٌ صغيرٌ وموت ٌكبير؟ أي هل الموت محمول على وجه الحقيقةِ أم على وجه المجاز؟ ما يهمّنا في العنوانِ هو تحديد العلاقة النصيّة التي تربطه بنصّ الرّواية، وكشف قيمة هذه العلاقة في تأسيس التّواصل بين عمليّتي الإبداع والتّلقّي. يتكوّن العنوان من كلمتينِ: الأولى: موت، وهي مفردةٌ نكرةٌ، والموتُ حسب (لسان العرب) يطلق على «السّكونِ... والموتُ يقع على أنواع بحسب أنواع الحياة: فمنها ما هو بإزاء القوّة النامية الموجودة في الحيوان والنبات، ومنها زوال القوّة الحسّية، ومنها زوال القوّة العاقلة، وهي الجهالة، ومنها الحزن والخوف المكدِّر للحياة، ومنها المنام، وقد قيل: المنام الموت الخفيف، والموت: النوم الثقيل؛ وقد يستعار الموت للأحوال الشاقّة: كالفقر والذُّل والسؤال والهرم والمعصية وغير ذلك»... ولهذا تحمل كلمة موت دلالات عديدة، واختيار الكاتب لهذه الكلمة يوسع أفق توقّعات المتلقّي؛ فالنّوم موت، والحب موت، والسفر موت، والرّحيل موت، والفقد موت، والغربة موت، والسّجن موت، والحرمان موت، والعزلة موت، وكلّ هذه الأحوال مرّت بها شخصيّة البطل في الرّواية (ابن عربيّ). أمّا الكلمة الثّانية فهي نعتٌ ل»موت»: صغير، و»الصِّغَرُ: ضد الكبر». «الحب موت صغير» ابن عربي يشير العنوان إشارة مباشرة إلى مقولة شهيرة تنسب إلى ابن عربي وهي: «الحبّ موت صغير»، وقد تصرّف المؤلّف في هذه البنية النّصّية بالحذف، فغيّب المسند إليه (الحبّ) واحتفظ بالمسند، واتّخذه عنواناً لروايتهِ. إذا كان العنوان معدوداً من أكثر درجات الاقتصاد اللّغويّ فإنّ المسألة تصبح أكثر تعقيداً إذا حذفنا مكوّناً من التّركيب الأصليّ القائم على الاختزال. وهذا ما يزيد قراءة العنوان في علاقته بالمتن النّصّيّ صعوبة، وينزّلها في أفق الالتباس والغموض. فليس الحبّ وحده موتاً صغيراً؛ وإن كان الحبّ أحد أهمّ المعاني التي أراد الكاتب تعميق دلالتها، وجعلها فاعلة وحاضرة في مختلف المراحل العمريّة للشخصيَّة. إذ نجد ابن عربي صبيّ المهد يتعلّق حباً بقابلته فاطمة؛ فيقول عنها: «وهي أيضاً اتخذتني ابناً روحياً لها مذ حطّت عيناها على وجهي وغمرتني بحنانها الجارف الذي كان عزائي الأوّل في فراق برزخي وزادي في ابتداء رحلتي». ولأنّ الحبّ مكانه القلب، فإن فاطمة ما فتئت تذكِّر ابن عربيّ بقولها: (طَهّرْ هذا). إنّ هذا الحذف الذي اعترى العنوان ليس مجرّد محاكاة لمقولة ابن عربيّ، بل يتجاوز إعادة صياغة النصّ الأصليّ إلى إنتاجِ نصّ جديد مداره على الحيرة، وأفقه أسئلة تتزاحم في ذهنِ القارئ تدفعه إلى محاولة فكّ الطّلاسم وتأويل المقاصد. أما أحلام مستغانمي فتقول عن هذه الجملة «الحبُّ موتٌ صغير»: «الإنسان في ذعره من الموت الكبير يهرب إلى الموت الأصغر والأجمل، مراهناً على أبديّة العواطف في مواجهة أبدية الفناء، فيقع في قبضة الحب». وهذا القول يؤكد استمرارية هذه الثنائية الضديّة التي تلازم الإنسان، ثنائية الموت والحياة، الفناء والخلود، فما إن يهرب من قبضة هذا المصير المحتوم حتى يقع رهيناً لموت صغير، موت داخلي، موت يقع في قلبه، ويشدُّه من داخله، وهو الحب، وكأنها تهيئة صغيرة للموت الكبير. وعتبة العنوان الرئيس ليست مجرد علامة اعتباطيّة لا تحمل في طيّاتها معانيَ أو رسائل. إذ إنها تخبرنا عن محتوى الكتاب. وعليه فالعنوان ينهض بوظائف قسّمها (جيرار جينت) إلى أربع: الوظيفة التّعيينيّة، والوظيفة الوصفيّة، والوظيفة الإيحائيّة، والوظيفة الإغرائيّة. فإذا تدبرنا عنوان الرواية في ضوء هذا التقسيم النّظريّ وجدناه يجمع بين وظيفتي الإيحاء والإغراء. فالإيحاء يتأتّى من غموض العلامة وخرسها وإحجامها عن الإفصاح، لأنّها تلوذ بالحذف وتقيم في أكناف التّكثيف والاختزال. أمّا الإغراء فمردّه إلى الفراغ الدّلالي والفجوة الفاصلة بين العنوان والمتن النّصّيّ. فالعنوان يُلمِّح ولا يصرِّح بالإحالةِ على النّصِّ التراثيّ، وفي ذلك إدهاش للمتلقّي، وإغراءٌ له، وتحريك لفضوله للسّعي وراء هذا النّصّ المحذوف وكشف خباياه. محمد حسن علوان