تلقيت دعوة للعشاء وكانت في أحد المطاعم المميزة، وما يميز هذا المكان عن غيره أنه يدعوك للدخول في تجربة من الممكن أن تتعلم منها الكثير أولها اكتشاف ذاتك.. بكل اقتناع عزمت على خوض هذه التجربة ولتخفيف وطأت القلق لدي اصطحبت صديقات ممن لديهم حب خوض التجارب.. عند وصولنا رحبوا بنا بحرارة وابتسامة؛ وكان المكان في الخارج يبعث على الراحة والفخامة. جاء دورنا في الدخول أنا ومن برفقتي وطلب منا أحدهم (ترك حقائبنا والهواتف وحتى الساعات). فعلاً استجبنا لطلبهم بدون رفض منا وبعدها طلبت مني إحدى الأخوات الوقوف خلفها ومن بعدي رفيقاتي وكل واحدة تضع يدها على الكتف الأيمن من الأخرى، وبدأنا نمشي رويداً رويداً وعلى مهل حتى وصلنا لنقطة انعدمت فيها الرؤية تماماً، وقتها شعرت بالقلق وكنت أكثر انزعاجاً من تضاؤل ثقتي حينها، وبلحظة سمعتُ صديقتي في الخلف تطلب العودة من حيث أتت وصوتها يبدو عليه التوتر لكن طلبت منها الأخت التي اصطحبتنا أن تهدأ وتتحلى بالصبر كان لهذه المرأة قدرة عجيبة على تهدئة النفس وتحويل كل ما نشعر به من خوف وقلق إلى راحة وانشراح. كانت تمتلك صوتاً حنوناً يبعث على الاطمئنان لذلك نجحت في إقناعنا بمتابعة ما بدأنا به ثم سمعنا صوت امرأة أخرى ترحب بنا وتعبر عن سعادتها باختيارنا هذا المكان ومن ثم طلبت مني الاستدارة إلى اليمين وأن أمسك بيدها حتى لامست يداي سطح الطاولة واليد الأخرى أمسك بها الكرسي استعداداً للجلوس، وبنفس الطريقة البقية، ولما أخذنا وضع الجلوس طلبت منا تحسس الذي أمامنا ومعرفة مكان الطبق والشوكة والسكينة. كان الظلام دامساً يشعرني بالاختناق وعيناي مفتوحتان ولكن لا أستطيع أن أرى شيئاً. تابعت المرأة كلامها وقالت سنبدأ أولاً بالمقبلات وستستمتعن بأطباق شهية وتمضين معنا وقتاً رائعاً، ولكن في ظلمة تامة. ذهبت لتحضر الطعام وكنا نتتبع صوتها وصوت الأطباق في الداخل، كانت يداي تمسك بيد صديقتي خوفاً وقلقاً من البقاء وحيدة وكأني أتأكد من وجودها جانبي، وكل منا تشرح للأخرى مشاعرها. كانت سكينتنا تنبعث من أصوات وضحكات من هم حولنا ومعنا في نفس التجربة وكان أملنا يتجدد من نور لا يكاد يرى من لوحة مخرج الطوارئ والذي فجأة يختفي أمام أعيننا خلف سحب من الظلام، وبعد أن مضى من الوقت نصف ساعة ونحن على هذا الوضع حتى شعرت وكأن زخات كتل من الظلام تتساقط أمامي كما تتساقط زخات من المطر على وجهك وأمام عينك في يوم ممطر وكأني أسقط في عالم غريب كانت لحظات يصعب وصفها، فجأة وصل مسمعي صوت المرأة الدافئ والذي أخرجني من حصار هذه الظلمة وهي تطلب منا انتظار الطبق الأخير وهو طبق الحلوى وأكملت قائلة: عليكم التعرف على نوع الطعام المقدم لكم واكتشاف قوة حواسكم من خلال حاسة التذوق دون رؤية ما نأكله مما جعلني أنا وصديقاتي في تحدٍ لاكتشاف أنواع الطعام المقدمة لنا، هذا الشيء أخرجنا من جو التوتر والمتابعة حيث لا مجال للتوقف، فالجميع حولنا مستمتع بالطعام وبتقوية الحواس، بعد ذلك أمسكت بكتف دليلي للخروج من هذا المكان، وانتهت التجربة وودعنا تلك المرأة بعد أن أوصلتنا لنقطة البداية، وخرجنا باتجاه النور حيث كان لأول وهلة مؤذياً للعين وذلك بعد استغراق نصف ساعة وأكثر في الظلام. عشنا تجربة حسية فريدة يقدم فيها الطعام كفيفين وسط ظلام دامس وريع المطعم بالكامل يعود لجمعية كفيف. خرجت من هذه التجربة وكأني هاربة أبحث عن النور والحياة، كانت تجربة ذات قيمة كبيرة بالنسبة لي أستطيع أن أقول إنني فهمت ما يعنيه أعمى. فهو يعلمك أن تعيش بشكل مستقل دون الاعتماد على الآخرين. نعلم جميعاً بقدرة الكفيف على تمييزه للأصوات، وعلى إحساسه الخارق الذي حباه الله به وهي البصيرة إحساس غير مادي يعتمد على الروح والمشاعر، وهذا يدل على تمتع الإنسان بمواهب وقدرات دفينة لا يتم اكتشافها بنفسه إلا عند تعرضه لظروف تجبره على اللجوء إليها. ولماذا أذهب بعيداً فأنا قابلت كفيفاً وهو بطل في ركوب الخيل وقفز الحواجز والآخر مذهل في مجال التقنية وإصلاح الأجهزة الإلكترونية حقاً إنهم أبطال بصيرة. قال إيليا أبو ماضي: لَيسَ الكَفيفُ الَّذي أَمسى بِلا بَصَرٍ إِنّي أَرى مِن ذَوي الأَبصارِ عُميانا