تساءلت دائماً.. ماذا لو أتيح لنا أن نحيا أطفالاً طوال أعمارنا، كيف ستكون الحياة لنا على الرغم من استحالة الممكن في أن تكون الحياة بنا حينها.. لأن الأطفال بحاجة إلى آباء دائماً، والأجيال تتعاقب.. هذا على مستوى علم الاجتماع وسنن الحياة، لكنني رأيت بشكل خاص أن الشعراء مدينة لا يكبر فيها الأطفال، فعاد بي العمر بعد هذه الرؤيا إلى شوارعه البعيدة المسيّجة بالحنين والآيلةِ مطلقاً لهبوب الأحلام المؤجّلة.. هذه الطفولة التي يدّعيها الشعراء أو ينتزعها بعضهم انتزاعًا ليست أكثر من قصيدةٍ على هيئة حلم لا يموت بالخيبات، ولا تتجعّدُ سحنته بالانكسار، ولا يؤمن بالنهاية.. ولهذا يتشبّث بها الشاعر كلما داهمه الواقع أو ألقت السنوات على ظهرة حِمْل المألوف في أوجِ رحلته نحو المدهش والمختلف. طفولة الشعراء وطن أشيائهم، وادّعاء سيرتهم، والتوسل للغيب فيهم، لا يتعبون منها ولا يكبرون فيها ولا يتأنّقون إلا بها، إنها ذلك الممر المؤدي إلى البوح بلا عقد ولا تأطير ولا تجمّل.. تكبر دونهم حتى تكاد تصغر لأجلهم، ويصغرون لها حتى تكاد تكبر عليهم، إنها تفاصيل أسمائهم، وأبطال حكاياتهم، وحقيقة تاريخهم، واستجابة غدهم لوجودهم... هكذا هي طفولة الشعراء قصيدة تستمر وتتكرر دون ملل، تجاهد كي تلوّن العمر في كل مراحلة بألوانها البِنْكيّة، وتقص عليها كل ليلة حكاية الأمير الذي يخونه الصباح. طفولة الشعراء التي افترضتُ دائماً أنها منجم قصائدهم ومستودع أحلامهم وحقيقة، رؤاهم واستعادة خطواتهم، وتأويل غدهم، واستجابة وجدانهم، وتعب المشغولين بهم، لا تنتهي بعدد السنوات، ولا تنقضي بتدافع الزمن عليها، تتكوّم في حِجْر ظلالها كلما داهمتها الحوادث وتكالبت عليها الحياة الواقعية التي لا تكتفي بالأحلام، ولا تقوم بسواعد الأطفال منا، تظلّ تلك الطفولة دائماً ملجأ أرواحهم من فجيعة الفناء، وخاتمة اللوم للائميهم، إنها سكينة القلق، وعذر القصيدة، ومتّسع الخلود، ومسيرة الدهشة، والمفاجأة التي لا تُمتهن بالتعوّد، ولا تُستعاد بالتكرار، تتجلّى أحيانًا في رعشةٍ تصافح الحنين إلى الأمس البعيد، أو بنظرة لا مبالية للمألوف فينا، تكفر غالباً بما يجب حين تؤمن بما تحب، بريئة من الظنّ واللؤم ومكائد الأحداث، لا يعنيها أن تفعل ما تقول حينما تقول كل ما تفعل، لا تحترم المسكوت عنه حينما يبلغها ولا تتأنّى عن البوح به حينما تداهمها نوبات ثرثرة لا تنتهي، إنها رحم الوجود الذي يتخلق فيه الشعراء، وتتكوّر فيه القصائد.. ولهذا تشبّث الشعراء بها دائماً فمنحتهم الحلم الذي لا ينتهي والعمر الذي يتجدّد وبلّغتهم البراءة من ذنوبهم، والوصول إلى البقاء في دائرة الحضور حتى بعد موتهم. فاصلة: من قد يقول القول عنكَ بكل ما تبديه أو تخفيه أو تنويه.. أنت وثيقةُ الزمن الذي يرعاكَ.. أنت حقيقةُ الشجن الذي ربَّاكَ أنتَ مؤجّلٌ فيما يحينْ... لا تستعيدُ الأمسَ لا تستعجلُ الآتي ولا تحصي السنينْ..! فإلامَ تسألني.. عن العمر المشرّدِ في ظنونِ الآخرينْ...؟!