عندما نتحدث عن الوالدين فإن القلم يجف والتعبير لا يفيهما حقهما بل إن حقهما فوق حقوق كل البشر الذين من حولنا مهما بلغت قرابتهم، وقد ذكر الله حقهما وفضلهما في محكم التنزيل فقال عز وجل: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا»، صدق الله العظيم. جعل الله عز وجل برهما والإحسان إليهما من أفضل وأجل القربات إليه تبارك وتعالى، وهذه منزلة عظيمة وشرف كبير لهما يجب أن نسعى لتحقيقه، هكذا هو المنهج الإسلامي العظيم الذي لا يوجد في أي منهج آخر مهما بلغ من الرقي، بل هو منهج يفخر به كل مسلم ومسلمة، أجيال توارثته وتربت عليه -ولله الحمد-، فطرة الإسلام هي الفطرة السليمة التي تسمو بالنفوس إلى هذا الخلق الرفيع. كان والدي -رحمه الله- مربياً صالحاً، له منهج منتظم في التربية وتعليم الأخلاق بأسلوب يدرس في وقتنا الحاضر، وهو لم يقرأ أو يكتب بل إنه لم يأخذ تعليماً في مناهج التربية والسلوك والدورات التدريبية التي تعقد بين أفراد المجتمع، ولكنه كان معلماً للأخلاق والسلوك بتعامله وتصرفه معنا جميعاً؛ كان لماحاً في توجيهاته، مبتسماً في نقده وملاحظاته، لا يشتم ولا يسب، يسعى للتحفيز والتشجيع بطريقة تدفعنا للحماس والمبادرة. لم يكن في يوم من الأيام إلا رجلاً يعاملنا كأصدقاء، يحرص على تعليمنا وتشجيعنا لمواصلة الدراسة والتفوق حتى ولو أخفقنا في بعض الدروس، عندما كان مريضاً في المستشفى كنت مرافقاً له وفي لحظة مفاجئة ارتفعت حرارته بشكل لافت وانطلقت بسرعة إلى طاقم التمريض لعمل أي شيء له فقاموا بواجبهم ووضعوا له خافض الحرارة عن طريق الوريد حتى عاد الأمر لطبيعته، ونظر إلي ثم قال: هل وجبت الصلاة؟ قلت: نعم ثم شرع في صلاته، وبعد أن انتهى بدأ يسبّح ويستغفر، ثم قال: (قلط الضيوف) قلت له: أبشر وتهلل وجهه بشراً. هذه الخصال ومكارم الأخلاق تمثلت في الجمع بين أمرين (العلاقة مع الله والكرم)، وقد أحسست وقتها بالتقصير في جانب البر به، وقلت هذه الأبيات: يابوي سامحنا على كل تقصير دنيا بلا برك تراها خساره نفرح إلا شفناك طيب وفي خير ونضيق لا زادت عليك الحراره يالله عسى ما صابك اليوم تكفير والناس تدعي لك بسر وجهاره نبيك في المسجد تأذن بتكبير ونسمع أذانك فوق عالي المناره ونبيك عقب عصير عند المغاتير وبالعافيه تشرب حليب البكاره ومن عادتك لا شلت لك طفل صغير تفرح تغني له بلطف العباره والضيف لا شفته تسوق التباشير أنا اشهد انك ماتهاب الخساره وصلاة ربي عد ما غرد الطير على محمد عد ما اشرق نهاره ولن أنسى فضل الوالدة -رحمها الله- التي كانت السراج المضيء في بيتها الذي كان يمتلئ بالحب والحركة الدائمة التي لا تتوقف في تبادل الوقت في زياراتنا لها في الصباح وقبيل الظهر وبعد العصر وبعد المغرب حتى العشاء، حيث كان وقتها مليئاً بالعبادة والصلاة والدعاء واستقبال الضيوف والفرح بكل من يأتي لها من الأقارب والجيران ومحبتها لصلة الرحم وبذل المعروف والإنفاق والإحسان للناس والبشاشة والابتسامة التي لا تفارقها أبداً مع الصغير والكبير. كانت تحضر ذبائح عيد الأضحى المبارك لتشرف على أضحيتها وأضحية والديها وتفرح بوجودنا لأننا من يقوم بذبحها أمامها بعد أن تتلفظ بنيتها في الأضحية، وعندما جاء وقت الأضاحي في العام الماضي لم تكن بيننا فقد اختارها الله عز وجل قبل ذلك الوقت الذي كانت تحسب له بالأيام، وعندما التفت ولم أجدها وأنا أهم بذبح أضحيتها تأثرت بهذا الموقف، وقلت هذه الأبيات: العام يمه تشهدين الضحايا واليوم حنا اللي شهدنا ضحيتك هذا قدر ربي وهذي المنايا هذا هو المكتوب وهذي منيتك وقلوبنا هاضت بحزن وخفايا وعيوننا وقلوبنا ما تناستك في البيت نذكر مابقى من بقايا نذكر جلالك والعبايه وشيلتك وفي مطبخك نذكر صحون ملايا تملينها للي يجونك بغرفتك ياكثر ما تعطين من هالعطايا كم حرمة تفرح إلا منها جتك وفي العيد دايم تصرفين الهدايا والكل يفرح يوم ياخذ هديتك يالله سألتك وانت رب البرايا تجعل لها منزال في وسط جنتك رحمهما الله جميعاً رحمة واسعة وأسكنهما فسيح جناته وجميع موتى المسلمين.