جلست ارتشف كوباً من الشاي وإذا بيدي ترتجف من التعب والحرارة، وكان يدور في فكري تلك المرأة التي كانت أمامي تجلس في الطائرة في المقاعد الأمامية، حيث كانت في قمة التوتر والقلق والتعب.. شدت انتباهي وفضولي تعاطفت معها كثيراً، تمنيت أن أخدمها أو أساعدها.. لكن لم أستطع، وأقلعت الطائرة ومازالت تلك المرأة قلقة ومتوترة جلست واستمررت أرقبها، حتى اكتشفت أخيراً أن سبب قلق المرأة أو الأم بل الأم العظيمة هو أحد أبنائها الذين كانوا معها، ومع والدهم.. الابن الأصغر يشتكي وقتها من حرارة شديدة، بدأت الأم تتردد على ابنها من وقت لآخر مرة تعطيه الماء وأخرى لتقيس درجة الحرارة.. ومرات تعطيه دواء خافضاً للحرارة.. استمرت على هذا الحال طول فترة الرحلة التي قاربت نحو ساعتين. بعد إقلاع الطائرة هرعت الأم إلى الابن الأكبر تريد منه تبادل المقاعد، فهو قريب من أمه لحسن الحظ بالجهة المجاورة لها، فما كان من الابن الأكبر إلا أن رضخ لأمر والدته، جلست الأم وأخذت الابن بحجرها وجلست تمسح رأسه.. تغطيه تارة، وتخفف عنه اللباس تارة أخرى.. ترى أي عظمة لهذي الأم!.. وبعد الإعلان عن قرب هبوط الطائرة، فرحت هذه الأم وجلست صامدة وصابرة.. وبعد فتح أبواب الطائرة هرعت الأم وأبناؤها والزوج سريعاً إلى الخارج.. في صالة الأمتعة لم أجد تلك الأم وأبناءها، فأدركت يقيناً أنهم أسرعوا به إلى المستشفى، تمنيت أن أطمئن عليها وعلى الابن المريض.. هذا المشهد قد يراه الكثير أو الجميع أنه أمر عادي طبيعي يمكن أن يحدث في أي وقت أو أي مكان.. أكيد لا، لأن المشهد كاملاً بعيد عن الأرض.. كل أم صابرة ومحتسبة وصامدة وثابتة ومحبة لأبعد الحدود لأبنائها.. الأم وما أدراك ما الأم! أنا تعاطفت مع هذه الأم وزوجي كذلك، وذكرتني بنفسي يوم كنت في شبابي وصباي مع أولادي أعطي عطاء لا حدود له.. اسألوني عن الأم، يقول محمود العقاد -رحمه الله-: "الأم في الحزن هي العزاء، وفي البؤس هي الرجاء، وفي الضعف هي القوة"، ويقول وليم شكسبير: "الأم أنعم مخدة في هذا الكون.."، إحساس الأم لا يدرك ويعرف حدوده إلا الأم؛ فمثلاً أحد أبنائي تم تعيينه قبل ثلاث سنوات بعيداً عني، وعند زيارته لنا أتعمد أن لا أراه أو أودعه لأنني لا أتحمل أن أسلم عليه أو أودعه.. رده الله لي رداً جميلاً، ويرد كل غائب إلى حضن أمه، لا أستطيع التعبير عن الأم ولو في عشرات الصفحات، الله يرحم كل أم رحلت عن هذه الدنيا، ويحفظ كل أم على قيد الحياة ويطيل في عمرها على طاعته ورضاه. وأخيراً، الأم هي نبع العطاء وحنان لا ينتهي.