عندما غادر (عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود) الرياض مُكرَهاً بعد سقوط الدولة السعودية الثانية (1309ه / 1891م) إلى قطر فالبحرين ثم الكويت ظلت هاجسه الأول، وهي المدينة التي فيها ولد ونشأ وعاش فترة صباه متنقلاً بين أزقتها وحواريها. لم تكن السنوات العشر التي قضاها (عبدالعزيز) بعيداً عنها سنوات طيش وراحة بال رغم أنها كانت مرحلة مراهقة عمرية وتطلعات شبابية بقدر ما انعكست تلك الفترة على بناء شخصيته وتكوينها، وظل حلمه الكبير العودة لمسقط رأسه واستعادة ملك أبيه وأجداده. هذه العودة لم تكن رغبة منه في استعادة حكم أو بحثاً عن الذات فقط بقدر ما كانت بحثاً عن هوية عامة لأسرته وبالتالي لمجتمعه وأمته، لينطلق بعد عشر سنوات من نهاية حكم والده، خلفه التاريخ وأمامه الجغرافيا وهمه التوحيد.. فاستلهم التاريخ ودانت له الجغرافيا وتحقق له التوحيد. أكثر من نصف قرن قضاه الملك عبدالعزيز في جهادين؛ حربي وسلمي: المرحلة الأولى:(1902 - 1932) مرحلة التوحيد والتي بدأت بفتح الرياض وانتهت بتوحيد المملكة. المرحلة الثانية:(1932 - 1953) مرحلة البناء والتي بدأت بإعلان اسم (المملكة العربية السعودية) وانتهت بوفاته -طيب الله ثراه-، وضع خلالها أسس دولة حديثة ذات رقم مؤثر في خارطة العالم، خطبت الدول ودها في وقت مبكر بعقد الاتفاقات معها (الاجتماع مع الرئيس الأميركي روزفلت وزيارة ممثليها للدول الكبرى) والمشاركة في تأسيس المنظمات الدولية (هيئة الأم والجامعة العربية). وإذا كانت المناسبات الوطنية الجامعة تعتبر واحدة من أهم السياسات التي تتبعها الدول الحديثة في الاحتفاء بالمنجز وتعميق الهوية والاعتزاز بالروح الوطنية فإننا ونحن نحتفي هذه الأيام بيومنا الوطني ال93 فإننا في الحقيقة لا نحتفي فقط بالمنجزات التي تحققت لوطننا الغالي أو نمجد وحدته بقدر ما نستلهم القيم الراسخة التي قام عليها بما يعزز انتماءنا ويعمق من ولائنا له. فاليوم الوطني ليس أهازيج تُردد أو أغانٍ تُخلد أو قصائد تُمجد اليوم الوطني شعور بالانتماء يخفق به قلب ودعوة يلهج بها لسان. وما تلك إلا اعتزاز بهذا الشعور وتعبير عن هذا الولاء. هذه القيم التي استلهمها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -طيب الله ثراه- من موروث ديني مستمد من الكتاب والسنة ليبني عليها أسس دولة عصرية، سار على إثره أبناؤه البررة في النهج ذاته لتواكب العصر الحديث بكل متطلباته دون مساس بالقيم والثوابت لتحقيق المعادلة الصعبة في بناء الدول. حري بنا أن نتذكر هذا كله ونحن نعيش اليوم في العهد الزاهر بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -يحفظه الله- الذي استطاع خلال زمن قياسي لا يقاس بعمر الدول، وبما يملكه من خبرات متراكمة كرجل دولة وأحد صناع القرار قبل أن يصل لسدة الحكم، تغيير المفهوم التقليدي للدولة مع المحافظة على قيمها وتقاليدها، وليقدم مفهوماً جديداً لمعنى الدولة الحديثة. وجاء اختياره الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد وقائداً لهذه المرحلة ليؤكد بعد نظره -يحفظه الله-، حيث ترجم سموه بما يملكه من طموح الشباب وتطلعه للمستقبل هذه النظرة لواقع عملي فأطلق رؤية المملكة 2030 التي بدأنا نلمسها واقعًا نعيشه ونتعايش معه سواء على الصعيد الداخلي من خلال برامج التنمية وتنوع مصادر الدخل أو على صعيد خارجي كدولة قائدة ورائدة إقليمياً ودولياً تقدم نماذج مبهرة في التعامل مع القضايا والملفات الدولية ما جعلها رقماً له تأثيره على خارطة العالم سياسياً واقتصادياً وفي كل المجالات. وقد جاءت مقابلة سموه مع قناة "فوكس نيوز" الأميركية متزامنة مع يومنا الوطني لتؤكد هذه الحقيقة الحقائق. هذا التوقيت لم يكن مصادفة بقدر ما كان مقصوداً في تزامنه مع هذه المناسبة لكنها في الوقت ذاته -وربما كان مصادفة- جاءت ونحن نضع بكل ثقة خطواتنا في النصف الثاني من مسار رؤية 2030 التي أطلقها سموه في نهاية إبريل 2016 وقد حققنا كما قال في المقابلة مستهدفاتها بشكل أسرع ووضعنا مستهدفات جديدة بطموح أكبر. وأكدت هذه المقابلة مكانة المملكة أقليمياً ودولياً كلاعب رئيس يملك القدرة والإمكانات على تغيير معالم المنطقة، وأنها ليست طرفاً في أي نزاع قدر سعيها للاستقرار والسلم العالمي بعيداً عن المنافسة والصراعات الكبرى، وهو ما أكدته وتؤكده الأحداث. فالسعودية لم تعد قصة الأمس ولا قصة اليوم لكنها قصة المستقبل وروايته، أو كما أطلق عليها سموه (قصة القرن الحادي والعشرين). كان حلم أجدادنا أن يكون لهم وطن، وكان حلمنا أن نعيش مرحلة بنائه، ويحلم أولادنا بمستقبل زاهر، وبفضل الله ثم دعم قادته وحرصهم وجهد أبنائه وإخلاصهم أحلامنا تتحقق. وما أجمل ولا أحسن ولا أعز من أن نصبح على وطن تنعم فيه بالأمن ورغد العيش وراحة البال تحت راية التوحيد! وطالما وطننا بخير.. فنحن بخير. والله من وراء القصد..