كم مرة يظهر لك في جهازك الشخصي وعن طريق كل برامج التواصل من يوجه لك نصيحة أو يذكرك بآية أو يشرح لك حديثاً؟ كم مرة شدك الأسلوب واستمعت؟ وكم مرة جذبتك المعلومة؟ وكم مرة شعرت أن هذا الشخص لا يقدم لك جديداً لا بالمعلومة ولا أسلوب الطرح، ولكن ما لا ينفعك ينفع غيرك فهذا الناصح الذي يبدو لك مملاً ومتصنعاً هناك من يستمع له ويجده رائعاً! ولكني أعجب من مقدار الثقة التي يتمتع بها بعض من أوتوا حظاً من القدرة الكلامية في كل وقت وكل موضوع بحيث تمكنهم من التحدث وكأن أحدهم (أبو العريف). ما دعاني للكتابة في هذا الأمر أني قبل لحظات سمعت أحدهم يقدم آخر على أنه متحدث جيد يقدم النصيحة لأبنائه فيقول: هذا الرجل تفوق علي مع أني قرأت خمس مئة كتاب في كذا، وقرأت ألف كتاب في كذا!! فأدهشني أولاً أنه يحصي عدد الكتب التي قرأها، وأدهشني أنه يتعجب أن هناك من يتفوق عليه، وأدهشني أن ما سمعته ممن قدمه ما هو إلا كلام مكرر ونصائح معلبة يتبادلها الناس طوال الوقت!! هذا الرجل الذي يحصي ما يقرأ من كتب يتكرر علينا أشباهه دائماً في كل مكان نقابلهم في ميادين العمل ومجالس البيوت وحتى مجالس العزاء! تجد من لا يتوانى عن تقديم نفسه وقدراته التي يرى هو فقط أنها ميزة لا يشاركه فيها أحد وهذا التقديم الذي يسمى تسويقاً ذاتياً لا يسوّق لنا من منطلق علم وفكر وجهد علمي وتدريبي بل من خلال القدره على الثرثرة.. ففي كثير من الأحيان نكتشف أن هذا المسوق لنفسه هو متفوق في القول أكثر منه بالفعل ولكن اكتشاف هذه الحقيقه غالباً يأتي متأخراً وخاصة فيمن تفتح لهم أبواب مواقع عملية مهمة وهم لا يحسنون سوى الثرثرة. نعم هذا يحدث كثيراً ففي كثير من الأحيان يخدع أرباب العمل بهكذا شخصيات، ونحن بالمقابل نجد من لديهم قدرات هائلة على الإبداع والإنجاز ولكن لا أحد يكتشف تلك القدرات إلا بعد تكليفهم بمهام معينة فتظهر بعدها نتائج أعمالهم، الأمر محير فلا قاعدة ثابتة تجعلك تستطيع أن تحكم بها على أحدهم وتبقى التجربة خير برهان رغم أنها تتطلب وقتاً لتتمكن من اكتشاف المسوق الذاتي الكاذب والصامت المنتج، والأمر يزداد سوءاً لو أن هذا الصامت المنتج يتبدل بعد حين ويصبح ثرثاراً في تسويقه لذاته ليحصل على الترقيات مثلاً بحق أو دون حق! فالأمر كله معتمد على القدرة الكلامية. إن الأمر لا علاقة له بالثقة بالنفس بقدر ما له من صلة قوية بالصدق والكذب مع الذات بالإضافة لمواصفات أخرى كالغيرة مثلاً أو الرغبة التنافسية التي تحرك كثيرا ممن يحرص على الوصول لما يريد حتى لو اضطره الأمر أن يكذب ويكذب ويكذب طوال الوقت. في فصول الدراسة عندما يوجه المعلم سؤاله سيكون هناك من يقفز في مكانه ويصرخ طالباً الإجابة أنا أنا لسانه ينطق وذراعه تهتز بقوه ليلفت نظر المعلم، وبالقرب منه يجلس آخر بهدوء لا يعلن عن نفسه وعن رغبته بالإجابة التي يعرفها جيداً فتكون النتيجة أن المعلم يختار ذلك الذي أعلن عن نفسه بكل الطرق وعندما يجيب سيكتشف المعلم أن هذا التلميذ أخطأ أو لم يقدم إجابة كاملة وربما تكون إجابة مقلوبة وبعيدة تماماً عن المطلوب، وعندما يجيب الآخر الهادئ تكون إجابته شافية وافية. هل الأمر عند الأول مرتبط بالثقة في النفس أو بالوهم والكذب على الذات بأن ما لدي من معلومة هي الصواب والكمال، وعند الآخر ارتبط الأمر بالصدق مع الذات لدرجة الركون إليه فيها فإن فطن أحدهم له كان بها وإن لم يفطنوا فهو سعيد ومكتفٍ بما لديه ولا يهدف أن يقف ليصفق له من حوله. أنا واثقة أن من جلسوا لعقد المقابلات الشخصية لاختيار الموظفين قد مرت عليهم حالات كثيرة مشابهة، وأن بعض القادة تورطوا في اختيار شخصيات معينة وكلفوها بمهام تفوق قدراتها لأنها تمارس الكذب على الذات في التسويق لقدراتها فتخدع نفسها وتخدع غيرها حتى حين.