شكراً لسؤالك وقلَقك الصادق، ها أنا أنهض من سَقطتي المَرَضية، بعد أن تَركَت آثارها الجسدية والنفسية والسلوكية عليّ إلى آخر العُمر، وقد مررتُ أمس ببعض الأماكن في مدريد التي تجولنا فيها حتى الصباح، فتذكرتُ أحاديثنا هناك، ومعها سلسلة أحاديثنا الأخرى في الكويت والإمارات وغيرها... وللحظة؛ تمنيتُ لو أن ثمة وسيلة معينة لحفظ تلك الأحاديث، بطزاجتها وعفويتها وحريتها وحرارتها التي تشحذ الفكر والعاطفة فعلاً، وسيلة أخرى غير الذاكرة، التي لا يُعوّل عليها والتي ستموت بموتنا، ووسيلة غير أجهزة التسجيل، التي تُربكنا بمجرد وجودها،لأنها ستحد من حريتنا بالقول والبوح والتفلسف والشطح والانتقال والقهقهة والبكاء... وتخيلتُ الكم الهائل من الأقوال والأفكار والأسرار والإشراقات والذكريات التي خسرتها الإنسانية برحيل أصحابها على مدى التاريخ، أحاديث المثقفين والمبدعين في المقاهي، في بيوتهم، في لقاءاتهم الشخصية، في مكالماتهم الهاتفية وغيرها.. بل وحتى أحاديث المرء مع نفسه. وكما تعرف يا صديقي، فإن أي تجربة اقتراب للإنسان من موته، ستجعله يفكر بإعادة ترتيب أولوياته، والمرض أحد سبل اقترابنا الكثيرة من الموت. وفي هذه التجربة تأكدتُ من رسوخ الكثير من قناعاتي، التي طالما تحدثت عنها، ومنها ما يتعلق بالكتابة على سبيل المثال، حيث كان يحز في نفسي أن أُصاب بالعجز أو أموت دون إكمال مشاريعي الكتابية، وهنا تأكدتُ بأنني لا أكتب من أجل الشُهرة لأنني، في نهاية الأمر، لا أتعامل إلا مع بضعة أشخاص قريبين، من العائلة والأصدقاء، ولن أجد عند مرضي أو احتضاري وموتي سواهم، ولا أكتب من أجل المال فالحصة الأكبر لعائد أي كتاب هي للناشر لا للمؤلف، ولا أكتب من أجل جائزة، فما الجوائز إلا دفعاً للدافعَين السابقين (الشهرة والمال). تأكدتُ من أنني أكتب لأن في نفسي شيئاً أريد قوله، وبأنني إن لم أقله سأموت وفي نفسي حَسرة عميقة، وبأن حياتي ووجودي ومعناي وعبوري وحتى موتي سيكون ناقصاً؛ إن لم أستطع قول ما أريد قوله، وبالشكل الذي أريد قوله... أعرف بأن ذلك مستحيل، وبأنه ما مِن إنسان يموت إلا وفي نفسه حسرة على شيء ما، لذا فأنا الآن؛ آمل وأسعى، قدر الإمكان، إلى أن تكون حسرتي أقل. لدي الكثير مما أريد قوله وكتابته يا صديقي، ولدي أحاديث قد لا تهم إلا أصدقاء مثلك، لكن الرسائل، مهما طالت، تبقى قصيرة وقاصرة، مثل أعمارنا، التي لا تتسع لكل ما نريد كتابته وقوله وفعله، فما بالك بكل ما نريد قراءته أو الاستماع إليه! لذا سأكتفي هنا بالقول: إلى اللقاء، إن شاء الله. د. محسن الرملي: كاتب عراقي