يبقى صناع الأثر وأصحاب قصص النجاح والعطاء المستطاب هم أدوات الانطلاقة ومراحل التنفيذ وقنوات الاستدامة في برامج العمل المجتمعي الخيري منه والتنموي الذي يقصد به النفع العام وخدمة الناس المستغني منهم والمحتاج، ولأن وجود صناع الأثر لا يمثل الأغلبية في المنفقين وإن كثروا، وكذلك فإن من يستمتع بالعطاء ويستطيب بذله فإن من الواجب تسليط الضوء على فلسفته لنحاول خلق الكثرة من القلة ولن يكون ذلك مستحيلاً ولا صعباً في بلد كريم تتحقق فيه المنافسة الخيرية (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) ولن نعجز في ذلك لتحقيق حديث المصطفى الكريم صلوات الله وسلامه عليه عندما سئل (من أحب الخلق الى الله قال أنفعهم للناس) ونحمد الله على التفاعل والبذل المالي والعيني والتطوعي في القادرين من أفراد مجتمعنا الكريم وتنامي الأعداد بتنامي ثروات الأفراد وقطاعات الأعمال. ولبسط تجربة أحد أهم الفاعلين والباذلين في نفع الناس وهو الراحل الفقيد الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن ناصر العقيل الذي افتقدناه في الأيام الماضية ولجت له الناس حزناً وألماً وسُكبت دمعات مئات الآلاف في هذا البلد الكريم وتفاعلت مع الخبر دول الخليج والدول العربية على رحيله، والحزن في ذلك ليس خوفاً عليه فبرحمة الله له قد قدم مايشفع له عند أرحم الراحمين لأنه كان يستطيب العطاء وكأنه ينفق على نفسه وولده ويستلذ به وكأنه يهدى إليه فلم نشاهد تأثراً برحيل أحد في عصرنا الحاضر من القريب والبعيد مثلما شهدنا التأثر برحيله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولأنه من أحب الخلق إلى الله ولا نزكي على الله أحداً، فقد أنزل الله محبته في قلوب من يعرفه ومن لا يعرفه، واكتظت الممرات والمسجد بالمصلين عليه وشهدت جنازته في المقبرة ما لم تشهده عشرات الجنائز مجتمعة وهذا من عاجل بشرى المؤمن نحسبه كذلك من خلال عقدٍ ونصف من العلاقة اللصيقة به وبسلوكيات العطاء عنده وفلسفة نفع الناس والبذل لهم من مال الله الذي أعطاه إياه ومكنه منه واسترعاه فيه وصدق في تنقيته والنفع به وبذله في الخير. ولأن الأثر متعدد للصديق الراحل -رحمه الله- وقصص النجاح كثيرة ولا أعلم أن هناك باباً للخير عن طريق أفراد أو جمعيات إلا وله القدح المعلى فيه، وفي كل باب ومجال هناك قصة نجاح وصناعة أثر، والحديث عن ذلك كله يحتاج العشرات من الكُتاب والمقالات بحسب القُرب من كل قصة وأثر وعطاء ومستفيد، ولكن سأتحدث عن إيمانه العميق بمبادرة العناية بمساجد الطرق التي كان تغيير صورتها الذهنية السيئة أشبه ما يكون بالحلم في يوم من الأيام أو المستحيل، ولكن تحولت بفضل الله وتوفيقه ودعم المحسنين من أفراد ومؤسسات مانحة وجهات حكومية وخاصة إلى واقع جميل ترى فيه العناية بمساجد الطرق ومرافقها وبعدد يقرب من 200 مسجد حتى الآن مابين منجز في البناء الجديد أو إعادة التأهيل والترميم أو الصيانة والتشغيل والتطلعات إلى أضعاف هذا العدد. وفي مساء يوم من الأيام في بداية انطلاقة المبادرة قبل تسع سنوات وقبل الخروج في برنامج تلفزيوني وجماهيري يخاف من عواقبه كل من كان مشاركاً في حوار مع مذيعه الحاد في صراحته والجاد في طرحه، واتصلت قبل الدخول على الهواء لإبلاغ الصديق الراحل "أبي محمد" أننا سنكون على الهواء خلال دقائق في برنامج تلفزيوني مشاهد سيكون عن ملف مساجد الطرق وعجز كل الجهات عن تصحيح وضعه.. وسيكون مشاركاً معنا ممثل لأحد الجهات المعنية بذلك نظاماً، ومقدم البرنامج يراهن على عدم نجاحنا كجهة خيرية في تصحيح الواقع المؤلم ولا نرغب أن نكون الجهة الأضعف في الحلقة، واحتاج المعاضدة منك والتقوي بك بعد -توفيق الله- أمامه وأمام المشاهدين بوعد لتصحيح الصورة الذهنية والوعد بإطلاق مبادرة إنشاء مساجد داخل المحطات والقيام على صيانتها وتشغيلها بصفة دائمة، ومباشرة قال: لك ما تريد وأنا مؤمن بالقدرة على التصحيح لوجود الرغبة والتفاعل العام مع إنشاء المساجد أو ترميم الصالح منها وتشغيله وصيانته وتستطيع الإعلان مني عن بناء مسجدين مع الجمعية والالتزام بصيانتها دائماً، واليوم بحمد الله قد تحقق بناء أربعة مساجد منه قبل وفاته، وكانت الجمعية قد جهزت له حسب طلبه ملف تسويقياً لمسجد خامس على طريق الرياضمكةالمكرمة ومسجد سادس على طريق الهجرة مكةالمكرمة - المدينةالمنورة، ومسجد سابع في مدخل مدينة المجمعة لوالديه رحمهم الله رحمة واسعة، وقد ذكر لي شخصياً أنه يستهدف التواجد على كل المحاور وبحد أدنى مسجد في الذهاب وأخر في الإياب خدمة للناس وعناية ببيوت الله أياً كان عددها وتكلفتها، وجمعية العناية بمساجد الطرق على ثقة أن الأشقاء والأبناء لفقيدنا الغالي سيحققون ماكان يتطلع له في بناء المساجد الثلاثة واستمرار صيانة مع تشغيل المساجد الأربعة المفتتحة في حياته رحمة الله عليه. وللفقيد نظرة خاصة في الاستدامة سأوردها في ثلاثة مواقف من باب إسداء الفضل لأهله رحمه الله: الموقف الأول عرض على الجمعية رحمه الله موقعاً لأحد مساجد الطرق مصراً عليه وبنية عدم التراجع عن ذلك، وذكرنا له أن الموقع لا تنطبق عليه ضوابط الجمعية لأننا كنا نستهدف مواقع خارج المدن وبمسافة لا تقل عن 50 كلم على أن تكون خارج النطاق العمراني، إلا أن الموقع الذي يرغب فيه فقيدنا لا يبعد عن الرياض سوى 35 كلم شمالاً والعمران يزحف بالاتجاه له سريعاً وبجواره مقهى تقليدي وروائح المقهى ربما تصل المسجد وذكرنا ذلك كله إلا أنه زاد في إصراره ورغبته وقال أنا أستهدف من هم في المقهى بالدرجة الأولى لعل قرب المسجد منهم يدفعهم للالتزام بالصلاة في وقتها وقد يكون هذا المسجد سبباً في إقلاعهم عما يستخدمونه، وتحقق ذلك كما أراد وأبلغه الله ما في نفسه وأصبح المسجد عامراً بالمصلين ولأكثر من 2000 مصلٍ في اليوم الواحد وتم افتتاحه قبل ست سنوات ولا يزال المسجد عامراً بالمصلين وشاهداً له بالخير، بل زاد عن إنشاء المسجد ببناء وقف مجاور له يدر على صيانته وتشغيله وتم استثماره من قبل جمعية إكرام عابري السبيل في مبادرة نوعية تسعى جمعية مساجد الطرق وإياهم الى تعميمها على أكثر من طريق، وتتمثل في ضيافة مجانية للمسافرين ويقدم فيها الماء الشاهي والقهوة وباسم "ضيافة مكارم" وللفقيد من ذلك الأجر الوافر فقد باركها ودعم وجودها ووافق على تخفيض الإيجار لهم لمساندتهم في أداء رسالة سامية لعابري السبيل لإيمانه أن ماتقدمه الديوانية من استقبال وضيافة مجانية يأتي من باب حمل بعض وعثاء السفر ومشقته عن المسافر. الموقف الثاني: رعايته وتبنيه رحمة الله عليه لأربع حملات إعلانية في أشهر رمضان المبارك، الحملة الأولى والثانية لنشر رسائل الجمعية وحملات التبرع لمشاريعها وبرامجها ويخصص مبلغ الرعاية في الحملات لأول 50 ألف لمن أعاد نشر التغريدة وهذا ساهم بشكل فاعل في رسم الصورة الذهنية عن الجمعية وتنامي الثقة في منتجاتها وحسن إدارتها لمشاريعها وبرامجها وتم التبرع بنية الصدقة عن المتفاعلين في بناء المساجد أو الصندوق الوقفي، والحملة الثالثة والرابعة كان الاستهداف فيها أبعد من ذلك، وهو رفع عدد المشاركين في خدمة الاشتراك برسائل الجوال وكذلك استهداف رفع الاشتراك في قناة الوقف، ويتبرع رحمه الله عن أول 10 آلاف مشترك في الحملة الثالثة والرابعة ويخصصها لهم في بناء المساجد أو أسهماً وقفية أجرها صدقة عنهم، وتجاوز حصيلة المشتركين الجدد 12 الف مشترك وهذا يعني أكثر من 144 ألف ريال شهرياً ويزيد عن 1,8 مليون سنوياً، وهو ماكان يفرحه فرحاً كبيراً خاصة وأن الجمعية أكملت بناء 3 مساجد من خدمة التبرع برسائل الجوال وصيانة وتشغيل العشرات من المساجد على مختلف المحاور التي تجاوزت 17 محوراً، وتجاوز مشتركي خدمة الرسائل بالقنوات الأربع أكثر من 100 ألف مشترك عبر التواصل برقم 5112، وهذه فلسفة لا يتقنها إلا رجال الأعمال الذين يُتقنون الاستثمار في الدنيا بما يعود عليهم في الآخرة وهو من بيت التجار دون شك وسيد من سادات المال والأعمال، والحملات الأربع السابق ذكرها تأتي مصداقاً لحديث الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه "والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مايحب لنفسه" وقليل جداً من يفعل ذلك ويستهدف منفعة الناس بهذا الانتقاء والارتقاء، ولكنه توفيق الله له وفضله عليه، والله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً استعمله لمرضاته ونفع به خلقه. الموقف الثالث ومثلما يدرك الجميع أن المبادرات الأهلية أيا كان حجمها ومقدار نفعها تبقى ذات ألق وعناية إذا كان هناك تخطيط في استدامتها على ما كانت عليه وأفضل ولذا بارك رحمة الله عليه وساند انطلاقة الصندوق الوقفي للعناية بمساجد الطرق وزاد من قناعته به أنه وقف غير تقليدي ينمو في تعظيم رأس المال بإعادة استثمار ما مقداره 30 % من الأرباح السنوية ويحقق الاستدامة في العناية من خلال 70 % من أرباحه السنوية التي تصرف في الصيانة والتشغيل للمساجد والبرامج الأخرى التي ترعاها وتتابعها الجمعية. ثم أنه -رحمه الله- ساهم في دعم الصندوق الوقفي بتغيير ثقافة الهدية المعتادة ومنح المئات من الصكوك الوقفية التي كان يخصص أجرها صدقة جارية عن من يراه، ويوقف لوالديه ووالديهم وأهل بيته وذويه وأصدقاءه ومعارفه في الصندوق، ولعلنا نسلط الضوء على مبادرة نادرة لم يسبق إليها ولم يفكر في فضلها وأجرها أحداً مثلما قد فعل، فقد استغنى عن إقامة حفل زواج لابنته "نورا" زاد الله توفقيها وسعادتها واستعوض عن ذلك كبديل لدعوات أحبته للزواج، وخصص هدية لهم تمثل قيمة الكرسي في قاعات الأفراح بدلاً من إهدار النعمة والإسراف في تقديمها أن يحول ذلك كله وبما يزيد على 800 صك وقفي إلى الصندوق الوقفي لمساجد الطرق وإصدار صكوك وقفية بذلك وإرسالها لكل من كان يرغب في دعوته للزواج ووضع اسم المدعو داخل الصك وأجره صدقة جارية عنه وبما يقارب 300 ألف ريال، فحفظ بذلك المال وحفظ النعمة وأجر الصدقة وكسب دعاء الناس وحقق من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، هذا بالاضافة إلى أنه كان يقدم الصكوك هدايا للمرضى وصدقة عن الموتى وتكريماً للموظفين وإيماناً منه أن ذلك هو الباقي وينمو الأجر بنماء وجود المال واستثماره وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم. ختاماً.. لا أشك مطلقاً أن قصص النجاح بالمئات إن لم تكن أكثر للراحل الكريم عبدالله بن عبدالرحمن العقيل مع الجمعيات الخيرية على مستوى المملكة ومع الأفراد والوسطاء وأهل الشفاعة الحسنة وتخليدها اليوم نحقق به: استمرار الذكر الحسن والدعاء للفقيد، وهو ذكر لمحاسنه الكثيرة بعد وفاته، وفيه صناعة للقدوة الحسنة ودفع للفضائل وتنميتها واستدامة وجودها وتأكيداً على خيرية الإنسان وتحقيق مبداء التكافل الاجتماعي بين القادر والمحتاج والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فالتمس فضلاً ممن تعامل مع الراحل واستفاد منه في نفع الناس أن يُخلد ويدون مايعرف عنه ومعه وينشره ويسعى لوصول للناس ولأهله لعلنا نجد إصداراً كريماً في يوم من الأيام يُخلد للمحسن الكريم بعض عطاءاته وهذا أقل الوفاء معه والحب له والامتنان منه. * نائب رئيس مجلس الإدارة جمعية العناية بمساجد الطرق