رواية "تغريبة القافر" للشاعر والروائي العماني زهران القاسمي، الصادرة عن دار رشم ودار مسكيلياني 2022، والتي استحقت الفوز بجائزة البوكر العربية 2023، رواية ساحرة سلسة تنساب في وجدانك، كما ينساب الماء في الأفلاج والقنوات الزراعية، تبدأ الرواية بمشهد سينمائي يشدك لمتابعة الحدث ومعرفة من هذه الغريقة التي رآها أحدهم داخل البئر، وانتقل الخبر في القرية كلها.. ومع تتابع الأحداث والحكايات والمواقف الغريبة، تجد أن بطل هذه الرواية هو "الماء".. بالفرح الذي يجلبه حضوره، وانهماره من السماء، وبالخوف الذي يعبر عنه غيابه، والجوع والعطش والفقد، والذل والاغتراب، والغرق.. الغرق الذي اتخذ أشكالاً عدة مع "القاسمي"، فقد يكون غرقًا في النوم، أو غرقًا في تفاصيل الحياة، وربما غرق في عينيّ المحبوبة، فللغرق أشكال عدة. بعد غرق "مريم بنت حمد ود غانم"، وموتها المؤكد يكتشفون "في بطنها حياة، فتخرج كما يخرج الحي من الميت. ويولد "سالم بن عبدالله" الذي يلقب لاحقاً بالقافر، لقدرته على اقتفاء أثر الماء، فهو مولود بميزة مختلفة عن غيره من الأطفال، حيث يستطيع سماع جميع الأصوات وتحليلها ومعرفة مصدرها، وأكثر ما كان يسمعه صوت الماء الذي ينساب في باطن الأرض، ويصرخ به أن يحرره ويخرجه للناس والقرى العطشى لكل شيء.. وهذه الميزة قوبلت في البداية بسخرية واستهزاء من أهل القرية، حيث كانوا يعيشون في وفرة من الماء الذي لم يتوقف هطوله من بعد وفاة أمه "الغريقة".. وهنا استطاع "القاسمي" أن يمزج الخيال بالواقع، والأسطورة بالحكايات الشعبية التي تجعل أهل القرى لا يجيدون سوى الكلام وملاحقة أخبار الناس وغرائبهم وإضافة المزيد من الخرافات حول القصص لتكون أكثر إثارة ومتعة، وبعد سنوات أجدبت الأرض وعطش والناس والقرى، وحاولوا البحث عن الأفلاج التي طُمرت واستعانوا بذوي الخبرة والمعرفة بالأفلاج وأماكن المياه، ولكنهم لم يستفيدوا شيئاً، فجاء الوقت الذي يستثمر فيه القافر هذه الميزة التي جعلته شخصية مهمة في قريته والقرى المجاورة. يتزوج من إحدى القرى التي تطلبه للبحث عن الماء، ثم يعود لقريته ويقرر أن يتوقف عن اقتفاء أثر الماء، ولكن هناك من يأتي ويغريه بأن تكون نصف البلدة له إذا استطاع أن يدلهم على مكان الماء في قريتهم التي تموت جفافًا، فيذهب لشعوره بالغربة في وطنه وربما تكون هذه فرصة له أن يبدأ حياة جديدة بعيدة عن الفقر والسخرية.. يذهب القافر رغم عدم ارتياح زوجته، وتسير به الأحداث لنهاية يمكن أن تكون كمشهد سينمائي استطاع أن يختم به "القاسمي" روايته ويجعلك تتفكر هل سينجو أم أنه لحق بأمه "الغريقة"..؟ في الرواية تظهر شخصيات عديدة، رغم أن بعضها لا نعرف عنه سوى اسمه وكلمة يقولها ربما تكون مثلاً شعبيًا باللهجة المحلية المفهومة أو عبارة يستهزئ بها من "القافر" ثم يختفي فجأة كما ظهر. وقد تكون أهم ملاحظة اختفاء الشخصيات المفاجئ في الرواية، مثل اختفاء "آسيا بنت محمد" مرضعة القافر، والذي أظهره "القاسمي" لنا أنها ذهبت لزوجها الذي هجرها قبل فترة طويلة، ولم يكن هو الرجل الأول الذي يهجر بيته وزوجته وأبناءه، ويتركهم يقاسون صعوبة الحياة، بدون تبرير لغيابهم المفاجئ. وهروب الرجال واختفاؤهم لمسته في رواية "حرير الغزالة" للروائية العمانية "جوخة الحارثي"، ولا أعلم هل هو حدث تشتهر به القرى في عمان؟ كما أن هناك شخصيات أخرى في الرواية تختفي فترات طويلة ثم تعاود الظهور فجأة، ربما كانت كالماء الذي يظهر ويختفي ليعرف الناس أنهم لا يستغنون عنه. وحين ذهب القافر بعيدًا عن زوجته، لطلب الرزق، اتخذت من غزل خيوط الصوف ذريعةً حتى لا تغادر مكانها وتنتظر عودة زوجها، ربما كانت إشارة إلى أنها تنسج صبرًا على هذا الغياب الذي يزعجها. وجاءت صور خيوط الصوف على غلاف الرواية الذي يتخذ لون الصخور المملوءة بالماء، وكأنها تقول لنا أن الحكاية لم تنتهي بعد..!