لا يعانون من أي قصور عقلي أو بدني، لكنهم اختاروا حياة العزلة والانطواء في الصحاري والكهوف بعيداً عن محيط المجتمع، لهم طقوس معروفة واهتمامات معيشية معينة ومختلفة، متفقون بعدة صفات تجمع بينهم من أهمها اعتزالهم النساء غير آبهين أو مهتمين بالزواج حتى وإن كانوا قادرين عليه مادياً، بل إنهم ينفرون من ذِكر الزواج ولا يعطون أي فرصة لمناقشته معهم. يطلق عليهم في أنحاء من الجزيرة العربية "الصمول"، وأحدهم "صمل" ويعرفون بهيئاتهم وملابسهم الرثة، وغالباً ما يكرسون حياتهم في تربية الإبل والمواشي، حيث يمنحونها وقتهم وكل اهتمامهم، لا يشغلهم عنها إلاّ المرض أو الهرم، ويبقون ينمونها حتى تكوّن عند الكثير منهم ثروات طائلة لا يستمتعون منها إلاّ بالقليل، في انتظار ذهابها إلى الورثة أو العصب، وحتى لو ظهر من بين هؤلاء شعراء مفوهين أو أصحاب مواهب في معرفة ألغاز الطبيعة والصحراء إلاّ أن كثيراً منهم يظل أقرب إلى الجهل بالحياة العامة وما يدور خارج دائرة اهتماماته وعيشه. تمييز واستدلال وقال الباحث نايف بن صالح الفهيد ل"الرياض": إن الرجل الصمل كما هو معروف لدى النجديين هو الرجل الذي لم يسبق له الزواج طوال حياته، أو تزوج في شبابه وانفصل ثم استمر ممتنعاً عن الزواج لأي سبب من الأسباب، وهم موجودون في كل زمان ومكان، وحتى لو كانت التسمية منتشرة عند أبناء البادية وفي الصحاري والقرى ويتم تداولها عندهم أكثر، إلاّ أنهم موجودون في المدن ومجتمع الحاضرة، لكن وجودهم في الصحراء المكشوفة يسهل من معرفتهم وتمييزهم والاستدلال على أماكنهم عكس من يعيش منهم في أوساط مجتمع المدن بسبب اندماجهم وانشغال محيطهم، مشيراً إلى أن الصفة التي تجمع بينهم في كل مكان هي الامتناع عن الزواج وعدم تغيير قناعتهم مهما قدم لهم النصح ومهما بذل الناصح من جهد، فهو غالباً لا يستطيع ثنيهم عن رأيهم أو إقناعهم بتغيير تلك القناعات، معتقداً أن تسميتهم بهذا الاسم صمول تشبيها ب"الصميل الجاف" وليس السقاء الممتلئ، فالصميل كما جاء في بعض معاجم اللغة هو وعاء من الجلد لحفظ اللبن، إذ يسمى صميلاً إذا يبس وصلب، وسقاءً مادام رطباً. اهتمام بالمواشي وعن الأسباب التي تدفع الشخص إلى أن يعيش صملاً، أوضح الفهيد أن لها عدة ظروف منها الحالة الاجتماعية والحالة المادية للشخص، والمرور بتجربة زواج فاشلة، كذلك الحالة النفسية أو الصحية المتمثلة في انخفاض هرمون الذكورة التي تنعدم معها الرغبة في النساء، ومن الممكن أن تكون بسبب تعلقه بهواية أو حرفة يعطيها كل اهتمامه ويمنحها كل وقته ونلاحظ في أغلب الصمول الذين نعرفهم خاصةً في الصحراء اهتمامهم بالمواشي وتكريس حياتهم وكل أوقاتهم لخدمتها، وبالتالي يبدعون في معرفة أساليب تربيتها وبأمراضها وعلاجها وسلالاتها ويرتبطون بها ارتباطاً روحياً غريباً، لدرجة أن البعض منهم يستطيع التمييز بين أصواتها المختلطة ويعرف صوت ذاك أو تلك لأي قطيعة تنتسب. عاش وحيداً وقال مرضي - أحد هؤلاء الصمول الذي تجاوز السبعين عاماً -: إنه ترك والده وأخوته في عالية نجد بداية حكم الملك فيصل - رحمه الله - وهو لم يبلغ سن العشرين، وعمل راعياً للغنم قبل أن يترقى راعياً للإبل بعد ثلاث سنوات من الخدمة عند أحد البدو، وكانت طبيعة رعيه توافق رغبته ومزاجه، حيث يقيم مالك الحلال في قرية ويبقى هو تائهاً في المرابع والصحاري مع إبله ويلحق به المالك كل يومين في الصيف، وخمسة أيام في الشتاء، يتفقد أحواله مع رعيته ويلحقه بالماء والزاد، فكان يجمع أجرته التي كانت في بداية التحاقه بالعمل 70 ريالاً إلى أن وصل 130 ريالاً في الشهر، وكان لا ينفق منها إلاّ القليل، وعند التحاقه بعمله راعياً للإبل فضّل بعد مرور ثلاث سنوات أخرى أن تكون أجرته جملاً كل عام، ولم تمر عدد من السنوات حتى أصبح يمتلك عدداً جيداً من الجمال انفصل بها واستقل منتحياً بها مراتع ومرابع أخرى بعيدة، ليشتري خيمة أو بيت شعر صغيراً وأثاثاً بسيطاً ثم تعلم القيادة واشترى سيارة يذهب بها في مرات قليلة لحضور صلاة الجمعة وشراء بعض احتياجاته، ولأنه لا يحمل رخصة قيادة فهو يقتصر على دخول القرى والهجر وعند الذهاب إلى المدينة ومناطق الازدحام يوقف سيارته على أطراف المدينة ويبحث عمن يوصله. مئات الآلاف ولم يصرح لأحد بحجم ثروته، ولكن الذين تعاملوا معه بحدود ضيقة يقدرونها بمئات الآلاف، غير ثروته العينية من الجمال والضأن، وهو بالتالي لا يتعامل مع البنوك ويودع المبالغ النقدية أمانة عند أشخاص يثق بهم، ويعيش بالمقابل حياة بسيطة بعيداً عن وسائل الراحة، ولا زال - على سبيل المثال - لا يعرف موقد "البوتاجاز"، ويستخدم الحطب، ويضيء السراج في المرات القليلة التي يحتاج بها إلى ضوء، بل إنه يخيط ثوبه المشقوق ويخرز نعاله ولا يزال يتناول عشاءه بعد المغرب مباشرة وينام بعد صلاة العشاء، وبالتالي فهو يتمتع بصحة جيدة جداً، ولم يدخل المستشفى إلاّ مرتين أو ثلاث عندما احتاج إلى تفتيت حصوات الكلى، لكنه في المقابل يختلف عن كثير من أمثاله؛ لأنه يحيط ببعض الأخبار الوطنية المهمة والحروب الدائرة في بعض الدول يلتقطها من الإذاعة التي يستمع لها يومياً من راديو سيارته. أُنس وراحة وعن علاقته بأهله أكد مرضي على أنه كان يزور والده شهرياً ويمده بالمال قبل وفاته في عهد الملك خالد - رحمه الله -، ومن بعده بقي على تواصل مع أخوانه وأخواته وأقاربه في الأعياد، مضيفاً: "أحرص على حضور مناسباتهم، والآن يزورني المتبقي منهم هم وأبناؤهم، ويجلبون لي الملابس والطعام، ويخيمون عندي بعض أيام الإجازة مع أسرهم في الشتاء"، لافتاً إلى أنه ليس بخيلاً أو حريصاً على الدنيا كما يظن البعض، لكنه اعتاد على نمط عيش معين، ووجد أنسه وراحته النفسية والبدنية، ولا يستطيع البقاء داخل الجدران، بل ولا يقبل ببعض نمط حياة الناس. أدوات مطبخ الصمل ملابسهم مُعلقة تحت الشمس الباحث نايف الفهيد