في عالم اليوم، قد لا يكون للشعر قيمة مادية، قد لا يكون له ذلك التأثير الذي كان له في الماضي، واليوم حيث أصيح كل شيء مقلوباً على عقبيه، لا نستطيع أن نرى فيه عيوناً عاجزة عن الرؤية، وقلوباً عاجزة عن النبض، وأرواح عاجزة عن الحراك. في هذا العالم الغريب.. هل تحتاج الإنسانية إلى الشعر؟. حين كان الشعر عبارة عن صحراء، وجمال وحسناء، وطبيعة بكر، كانت الأشياء تبدو أكثر خيالاً وجمالاً وروحاً، وكانت القصائد تقطر ولهاً وولعاً وعشقاً وحباً، وكان الشعر أكبر الحاضرين، وأعظم الجالسين، وأخلص المسامرين، فكان الشعر بهياً وأنيقاً وساحراً ككل الأشياء الرائعة في ذلك الزمان. وجاءنا عصر التكنولوجيا وتغيرت الأحوال كلها، وما أصعب البعد حين تطاردنا الأيام، وتغلق أبوابها في وجوهنا، ونحاول أن نجد منفذاً لكي نهرب من الذاكرة التي تشظت في أفكارنا، ونسعى كي نرمم ما بقي من ذواتنا. وعلى الرغم من التقدم التكنولوجي في هذه الحضارة المعاصرة، إلا أن الإنسان فقد ذاته وهويته، بدأ يشعر بالاغتراب النفسي في العالم المزدحم، أصبح الإنسان في ظل هذا التقدم التكنولوجي ليس له قيمة، وليس له وجود حقيقي، ثم تعددت نتيجة لطبيعة العصر الذي يعيشه الإنسان المعاصر ويعاني بالتناقضات والتنافس والتغيرات المتلاحق التي تقود الإنسان إلى العزلة الاجتماعية ويبث فيه الشعور بالبعد عن الآخرين. وهذا يعني تشوه نمو الشخصية الإنسانية حيث تفقد مقومات الإحساس المتكامل بالوجود والديمومة. على الرغم من ارتفاع المستوى المعيشي للناس، وسهولة تواصلهم واطلاعهم على الإبداعات الأدبية والفكرية، خاصة في الشعر، يبدو أن المناخ الفكري غير خصيب، ثم وجد الشعراء أنفسهم في عزلة أبعدتهم عن الجمهور، ولا يهتم النقاد لفهم أعمالهم الفكرية أو للتواصل مع تجاربهم الشعرية الجديدة. الشعر هو رحلة الإنسان والحياة، باعتباره الكائن الأقرب إلى مشاعر الأفراد ومطالبهم وآمالهم، والمجسد لأحلام الشعوب، والمعبر عن أسمى أشكال روحانياتهم، وهو الذي يمد الشعوب بالشجاعة من أجل تغيير أوضاع العالم. الشعر نافذة تطل على تنوع البشرية، الذي يأسر القلوب ويخلب الألباب، لأن الشعر يجمع قلوباً ترتعش بالحياة وتنبض بها، وهو الكائن الشعوري الذي نعيش به، يتسلل إلى الزوايا المظلمة في الحياة الإنسانية. الشعر هو ذلك الإحساس المرهف الذي يسوق أمامه نوق الخيال ويزرع سنابل قمح على قمم الجمال، ويضع عالماً مغايراً، ويحياكيها بقلب ساحر. يبقى الشعر في كل زمان من الأزمنة، ذلك العامل المتوازن الذي يمسك عصا الأرواح من المنتصف، يحاول الشعر أن يُبقي على ما تبقى من إنسانيتنا، يحاول الشعر أن يضيع ذواتنا المهدورة في أزقة الحياة، يحاول الشعر أن يجعل منا كائنات بشرية ذات روح ومشاعر، الشعر يدفع المشاعر إلى أرفع درجاتها، وينبذ القهر والظلم ومكافحة الحرب وإنقاذ البشرية. هل يمكن للشعر في عصر التكنولوجيا أن يعيد للإنسانية مشاعرها؟ هل يعيد الشعر للأرواح رونقها؟ وهل يعيد الشعر للقلوب ألقها؟ وهل يعيد الشعر للذاكرة هيبتها؟.