نفذت إحدى الجهات المهتمة باستطلاع الرأي العام في القضايا الاجتماعية فكرة مميزة في محاولة لمعرفة آخر اهتمامات الناس قبل الموت وما الذي يرغبون في قوله أو عمله قبل موتهم، فخصصت جداراً في مكان ما في عدة دول متفرقة في أنحاء العالم لتحقيق هدفهم، وهو أن يكتب كل من يمر بقربه ماذا يريد أن يفعل قبل أن يموت؟ وقد امتلأت تلك الجداريات بالرغبات التي سطرها الناس بمختلف المستويات الزمنية والثقافية والتي مكنت بالتالي من اهتموا بالأمر أن يدرسوا الفروق التي كانت تشير إلى أن اهتمام الناس كان ينصب في مسار المشاعر الإنسانية، فذاك يريد أن يعتذر، وتلك تريد أن تشكر، وآخر يريد أن يبوح بمشاعره وغضبه لمن آذاه بعد أن خزنها في ذاكرته لسنوات وعانى من وجودها في ذاكرته، ورابع يريد أن يعلن حبه لمن حوله وامتنانه على وجودهم في حياته. كثيرة هي المشاعر وغنية جداً ولكن معظمها يبدو مختبئاً خلف القلوب والعقول وبعضها يتوارى خلف موضع الصوت منا فنمسك بأجمل ما يمكن أن نقوله خجلاً أو خوفاً أو نتيجة عدم الاعتياد على الاهتمام بمشاعرنا ومشاعر الآخرين من حولنا في البيت مع أسرنا، أو في العمل مع زملائنا، أو الأصدقاء من أصحاب المكانة الخاصة لدينا وكأن المشاعر خلقت فينا وهي قابلة للتأجيل دون أسباب واضحة كوضوح الشعور الذي تنتج عنه في لحظة ما.. والغريب أن الناس في السنوات الأخيرة مالوا إلى طريقة سيئة في التعبير عن المشاعر فهي قريبة من العنف أحياناً أو مبالغ في تصويرها أحياناً أخرى خاصة عندما تصطبغ باللون الإعلاني الشائع مؤخراً. واللافت للنظر أن التعبير عن المشاعر والبوح بها هو الذي تفوق على كل الأمور الأخرى في نتائج دراسة تلك الجداريات، فأكثر ما عبر عنه الناس هو مشاعرهم المؤجلة التي يريدون منحها بعض الاهتمام فيعملون على تحقيقها قبل فوات الأوان، ولم يكن هذا الأمر يقتصر على دولة أو اثنتين بل على نتائج كل الاستطلاعات في كل الدول المشاركة، فالمشاعر لا لغة لها ولا لون ولا جنسية فهي صناعة عالمية تصنعها الحياة وتمررها لكل قلب وعقل، والقلوب تحتاج إلى من يواسيها في كل مكان، والابتسامات تنتظر من يفسح لها الطريق، والتعاطف لا يلحق بنا العار، والعقول تحتاج من يربت عليها فلماذا يؤجل الناس كل ذلك رغم أنه الأهم بالنسبة لهم؟ لماذا يركزون على التفاصيل المزعجة الظاهرة ويتغاضون عن التفاصيل الجميلة في داخلهم أو داخل من يتعاملون معهم؟ لماذا يظن الناس في مشاعرهم سوءاً فيخبئونها؟ ولماذا لا تكون المشاعر المعلنة وسيلة من وسائل تضميد الجراح بدلاً من إدمائها؟ يغفل الناس عن مشاعرهم ومشاعر الآخرين تجاههم فيسيئون لها أو يتغافلون عنها حتى يقعوا في فخ الفقد، فلا يبقى لهم سوى الشعور بالندم، فلمَ يحدث كل ذلك؟! أهو سوء تقييم للعلاقات الإنسانية أم بروز بعض العلاقات لأسباب معينة يغطي على ما سواه وكأن الأول قيمة بحد ذاته، والآخر يمثل حالة اعتيادية، أو كأن هذا الاعتياد يفقد بعض العلاقات قيمتها فتغيب المحاسبات والإزعاجات كل جميل ومميز فيها، بل ربما أنها تقدم لنا ما لا تقدمه العلاقات الأخرى حتى في محيط الأسرة الواحدة! وهناك علاقات يتعمد الناس إذابتها بالصد عنها فلربما كانت تسبب لهم بعض الألم وبعض الشعور بالتقصير فيتمادون في التقصير وكأنه الحل الأمثل، وهو في حقيقته العكس تماماً. وغير ذلك من أمور تجرح ذاكرتهم فتنزف منها الدماء ولهذا يتجاهلونها رغم حاجة الطرفين لها. كل العلاقات بلا استثناء يشوهها عدم الإفصاح، وكلها ينقصها شيء ما تصريح أو اعتذار أو شكر، وكل العلاقات تدمى هنا وتداوى هناك فلماذا نغضب من هذا ولا نغضب من ذاك ستكون الأسئلة كثيرة والإجابات أكثر وكلها رهن المشاعر التي نبديها أو نخفيها.