تعد مذكرة التوقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي أصدرتها الدائرة التمهيدية الثانية بالمحكمة الجنائية الدولية خطوة غير مسبوقة للمحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس دولة عضو في مجلس الأمن الدولي، في خطوة وصفت ب"الرمزية للغاية، لكنها تتضمن وزناً أخلاقياً"، وسط مخاوف من تداعيات القرار على مستقبل الحرب في أوكرانيا. وتلزم الخطوة القانونية الجريئة الدول الأعضاء في المحكمة البالغ عددهم 123 دولة باعتقال بوتين ونقله إلى لاهاي لمحاكمته إذا وطأت قدمه أراضيها. وقال المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان: إن القضية تتعلق بأخذ القوات الروسية مئات الأطفال الأوكرانيين من دور الأيتام في أوكرانيا، قبل أن يجري عرض الكثير منهم للتبني لاحقا في روسيا. وروسيا ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية ويستبعد مراقبون أن تسلّم أشخاصاً روساً إلى المحاكمة، خصوصاً ما إذا كان الأمر يتعلق بالرئيس الروسي شخصياً. وأوكرانيا أيضاً ليست عضواً في المحكمة ولكن كييف قبلت الاعتراف بعمل المحكمة على أراضيها، وحالياً يتعاون الجانبان في عدة ملفات تخص الحرب والجرائم التي ارتكبت فيها، واستشهدت المحكمة بمسؤولية بوتين عن اختطاف وترحيل الأطفال الأوكرانيين، الذين تم إرسال الآلاف منهم إلى روسيا منذ الغزو، كما أصدرت المحكمة مذكرة بحق المفوضة الروسية لحقوق الأطفال، ماريا لفوفا بيلوفا، الوجه العام للبرنامج الذي يرعاه الكرملين. يتمتع بوتين بسلطة مطلقة في بلاده، لذلك لا يتوقع على الإطلاق أن يسعى الكرملين إلى تقديمه إلى المحكمة الجنائية الدولية اطلاقا، وعليه، لا يواجه بوتين أي خطر فيما يتعلق بالقبض عليه طالما بقي داخل روسيا. وهنا تكمن المعضلة، حيث يمكن اعتقال قيصر الكرملين إذا غادر بلاده، وباعتبار أن تحرّكات الرئيس الروسي باتت محدودة للغاية بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليه، يرجح أنه لن يغامر بالسفر إلى دولة قد تكون لديها الرغبة في تقديمه للمحاكمة. إلا أن الأمور لم تقف عند هذا الحد، حيث من المقرر أن يحضر بوتين قمة «البريكس» المقامة في جنوب إفريقيا في أغسطس القادم. وبصفة أن جنوب إفريقيا عضو في المحكمة الجنائية الدولية، وأحد الموقعين على معاهدة روما، فسيكون عليها التزام قانوني بتنفيذ أوامر التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ضده. بوتين ثالث رئيس بعد البشير والقذافي ولم تحدد الدول المستضيفة موقفها من الأمر بعد، بيد أن لها سوابق بتجاهل القرارات الدولية، حيث رفضت عام 2015 تسليم الرئيس السوداني السابق عمر البشير خلال زيارته لها رغم صدور قرار دولي باعتقاله بتهمة «الإبادة الجماعية». وبررت بريتوريا حينها أن الأمر الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية لاعتقال البشير باطل بموجب قانون معمول به في جنوب إفريقيا يمنح الحصانة من المحاكمة لزعماء الدول، وهو ما يتفق مع القانون الدولي. لكن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ينص على أنه لا حصانة لزعماء الدول خلال وجودهم في الحكم في القضايا المتصلة بجرائم حرب. يشار إلى أنه منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا العام الماضي، سافر بوتين إلى ثماني دول، سبع منها يعتبرها «دول الخارج القريب» لروسيا، وكانت ضمن الاتحاد السوفيتي السابق. ولم تتوقف التنديدات الروسية منذ إعلان المحكمة الجنائية الدولية، إصدار مذكرة توقيف بحق بوتين والمفوضة الرئاسية لحقوق الطفل في روسيا ماريا أليكسييفنا لفوفا بيلوفا. وبوتين هو ثالث رئيس يصدر بحقه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بعد الرئيس السوداني السابق عمر البشير والزعيم الراحل معمر القذافي. ولم توضح المحكمة التي تتخذ من لاهاي الهولندية مقراً لها الإجراءات التي ستتخذها من أجل تنفيذ مذكرات التوقيف. وبموجب القانون الدولي، تشمل جرائم الحرب استهداف المدنيين، وكذلك الهجمات التي تسبّب خسائر مدنية بما فيها استهداف المراكز الصحية والمدارس والمعالم التاريخية.. إلخ. وينسحب الأمر أيضاً على كلا الأهداف غير العسكرية. ومع ذلك فإن العديد من أعمال العنف المروعة التي تؤدي إلى مقتل مدنيين قد لا تفي بالمعايير أحياناً لتوجيه اتهامات واضحة، وفي معظم الحالات يكون من الصعب جداً إثبات أن مقتل المدنيين يشكل جريمة حرب بسبب الحاجة إلى القرائن القوية، وتصعب هذه المهمة أكثر في حال كانت الحرب لا تزال مستمرة. ومن المعروف أنّ المحاكمات التي تقودها المحكمة الجنائية الدولية يمكن أن تستغرق وقتاً طويلاً للغاية، وبناء على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، أشار البيان إلى أن جرائم حرب ارتكبت من قبيل ترحيل غير قانوني للسكان الأطفال من «المناطق المحتلة» في أوكرانيا إلى روسيا. أما الوجهة الوحيدة التي تختلف عن تلك الفئة من دول الجوار، فكانت إيران التي زارها في يوليو الماضي للقاء المرشد الإيراني علي خامنئي. في المقابل، أمرت لجنة التحقيق المسؤولة عن الأبحاث الجنائية الرئيسية في روسيا، بفتح تحقيق في «إصدار المحكمة الغيو القانوني لمذكرات توقيف بحق مواطنين روس» وسيتعين على المحققين الروس تحديد هوية قضاة المحكمة الجنائية الدولية الذي يقفون وراء القرار في ضوء إجراءات رد محتملة في المستقبل. وكان فريق تحقيق من الأممالمتحدة قال إن نقل أطفال أوكرانيين إلى المناطق الخاضعة لسيطرة موسكو في أوكرانيا وإلى روسيا يشكل جريمة حرب. وأضاف المحققون، في تقريرهم الأول، أن مهاجمة روسيا البنية التحتية للطاقة الأوكرانية واستخدام التعذيب قد يشكلان جرائم ضد الإنسانية. ودعمت الولاياتالمتحدة الأميركية محاسبة مرتكبي جرائم الحرب» بعد أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس بوتين الا انه من الملاحظ أن البيان لم يعبر صراحة عن دعمه لجهود المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الرئيس الروسي على جرائم الحرب. وقال الرئيس الأميركي جو بايدن: إن إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بوتين مبرر، وأعرب عن دعمه للتحقيق في جرائم الحرب المزعومة التي ارتكبها بوتين. وأضاف بايدن للصحفيين قبل مغادرته البيت الأبيض متوجها إلى ديلاوير: «حسنًا، أعتقد أن هذا مبرر. لكن السؤال هو، لم يتم الاعتراف بها دوليًا. حتى نحن لم نعترف بها أيضا لكنني أعتقد أنه يمثل نقطة قوية للغاية». ولم يرد بايدن على سؤال عما إذا كان ينبغي محاكمة بوتين بتهمة ارتكاب جرائم حرب، بشكل مباشر، لكنه قال إن الرئيس الروسي «ارتكب بوضوح جرائم حرب». فيما لقي إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق بوتين، بتهمة ارتكاب جرائم حرب ترحيبا دوليا واسعا، فيما رفض الكرملين القرار ووصفه بأنه «باطل». وتم ترحيل أكثر من 16 ألف طفل أوكراني إلى روسيا منذ بدء الغزو في 24 فبراير 2022، وفق كييف، ووضع العديد منهم في مؤسسات ودور رعاية. ويفترض على كل دولة مصدقة على الاتفاقية وعددها 122 إذا سافر إليها الرئيس بوتين ان تعتقله وتسلمه للمحكمة، لكن بإمكانها أن تخرق الاتفاقية وألا تقوم بذلك، ووصفت موسكو أن قرار المحكمة لا أهمية لها وباطل قانونياً وأن روسيا ليست طرفا في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وليست عليها التزامات بموجبه، موضحة أن موسكو لا تتعاون مع المحكمة. وقالت إن مذكرات «التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية باطلة قانونيا» بالنسبة لروسيا، ونظام روما الأساسي هو النص التأسيسي للمحكمة الجنائية الدولية التي يقع مقرها في لاهاي بهولندا. فيما قارن الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف مذكرة توقيف بوتين الصادرة عن المحكمة ب»ورق التواليت». من جهته قال المدعي العام الأوكراني، أن العالم تلقى إشارة بأن النظام الروسي إجرامي، وأن قيادته وشركائه سيقدمون إلى العدالة»، وأضاف: «وهذا يعني أنه يجب اعتقال بوتين خارج روسيا ومحاكمته، وسيفكر قادة العالم مرتين قبل مصافحته أو الجلوس معه على طاولة المفاوضات». من جانبهم قال مستشارون في القانون الدولي إن نظام روما حدد في المادة 13 منه اختصاصات المحكمة وكيف تمارس المحكمة الجنائية الدولية الاختصاص على هذه الجرائم وحدها في ثلاث حالات، أولها إحالة دولة طرف إلى المدعي العام وهذا لا ينطبق هنا لأن روسيا ليست دولة طرف، ولا أوكرانيا، واثنان إحالة مجلس الأمن تحت الفصل السابع إلى المحكمة هذه الجرائم، وبطبيعة الحال هذا لن يحدث لأن مجلس الأمن يجب أن يأخذ القرار بالإجماع وروسيا ستعطل القرار عبر الفيتو وثالث اختصاص وهو الأخطر أن المدعي العام يبدأ بمباشرة التحقيق في جريمة وقعت على أساس المعلومات التي وصلت إليه ويحق له الاستعانة بالمنظمات الدولية والحكومية وغيرها، وعندما يتحقّق من وقوع هذه الجرائم يُحيْل الأمر إلى الدائرة التمهيدية لتأخذ القرارات في هذا الموضوع وهنا برأيي القانوني أن المدعي العام أصدر القرار من الدائرة التمهيدية بتوقيف الرئيس الروسي. وأكدوا أن روسيا لديها الكثير من الخبراء في القانون الدولي ويمكنها أن تقوم بالتفلت من هذا القرار من خلال إقامة محكمة وطنية لمحاكمة المرتكبين من القادة العسكريين والمدنيين المسؤولين عن هذه الجرائم وبالتالي تبطل عمل المحكمة الجنائية الدولية بكون هناك مبدأ مهم جدا وهو أنه لا يجوز المحاكمة عن ذات الجرم مرتين وبالتالي الرئيس الروسي يكون قدم للمحاكمة المسؤولين عن الجرائم باعتبار أنها حصلت دون علمه ومعرفته بها. ويستطيع الرئيس الروسي التفلت من مسؤولية المحاكمة إذا أثبت أنه قام بأخذ جميع التدابير اللازمة في حدود سلطته لمنع وقمع ارتكاب أي جريمة دولية أو عرضها للتحقيق والقضاء الروسي لأنه صاحب الاختصاص الأصيل للمحاكمة بناء لسيادة الدولة على أراضيها وذلك وفقا للمادة 28 الفقرة (ج) من نظام روما الاساسي لعام 1998. وبعد أكثر من عام على الأزمة الأوكرانية، ما زالت الحرب تستعر على الجبهات الميدانية، بينما كانت نتائجها حاضرة على الأرض بقتلى وجرحى، وبمذكرات اعتقال بحق مسؤولين روس. ويؤكد الخبراء، إن القرار ستكون تداعياته العملية محدودة، لأن فرص مواجهة بوتين للمحاكمة في المحكمة الجنائية الدولية غير مرجحة إلى حد كبير، كون موسكو لا تعترف باختصاص المحكمة ولا تسلِّم مواطنيها. لكن من المرجح أن «تلطخ» الإدانة الأخلاقية الزعيم الروسي بقية حياته، وفي المستقبل القريب كلما سعى لحضور قمة دولية في دولة ملزمة باعتقاله. ويقول الخبير في القانون الدولي والنزاع المسلح بجامعة روتجرز عادل أحمد حق: «قد يذهب بوتين إلى الصين وسورية وإيران وحلفائه القلائل، لكنه لن يسافر إلى بقية العالم، ولن يسافر إلى الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، التي يعتقد أنها ستعتقله». ورغم أن فرص محاكمة أي روسي في المحكمة الجنائية الدولية لا تزال غير مرجحة للغاية، لأن موسكو لا تعترف باختصاص المحكمة، وهو الموقف الذي أعادت التأكيد عليه بشدة اليوم، إلا أنّ رمزية القرار قد يكون لها تداعيات أخرى. ووقعت روسيا على نظام روما الأساسي عام 2000، لكنها لم تصادق عليه أبداً حتى تصبح عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، وسحب توقيعها في نهاية المطاف عام 2016. وقالت المحكمة إن مداولات ما قبل المحاكمة وجدت أن هناك "أسساً معقولة للاعتقاد بأن كل متهم يتحمل مسؤولية جريمة حرب الترحيل غير الشرعي لسكان، وجريمة النقل غير الشرعي لسكان من مناطق محتلة في أوكرانيا إلى روسيا، والتحيز ضد الأطفال الأوكرانيين. وإلى جانب بوتين أصدرت مذكرة مشابهة بحق ماريا أليكسيفنا لفوفا بيلوفا، مفوضة حقوق الأطفال في مكتب الرئيس الروسي في تهم مشابهة. وبحسب تقارير إخبارية فإن هذه هي المرة الأولى التي تصدر فيها مذكرة بحق أحد الأعضاء الخمسة دائمي العضوية في مجلس الأمن الدولي، من باب القضاء الدولي، وجّه الغرب أحدث ضرباته إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة لاعتقاله بتهمة ارتكاب «جرائم حرب» في أوكرانيا.