العقل كالجسد تماماً في العديد من الجوانب منها صحته، وتعرضه للأمراض، وحاجته لجهاز مناعة قوي يمكنه من الصمود أمام هذا السيل الجارف من الأفكار المعدية سواء تلك الأفكار القديمة التي خرجت من سياق التاريخ، أو تلك الأفكار الحديثة التي دخلت للتو. تعرف هذه المناعة العقلية باسم علم المناعة المعرفي، وهي نظرية نفسية يعود تاريخها إلى أكثر من سبعين عاماً، يعتمد هذا المجال من البحث على فرضية أنه ليس هناك فقط نظام مناعة للجسم، ولكن أيضا نظام مناعة للعقل كذلك. فالأشخاص الذين لديهم نظام مناعة عقلي صحي -بطبيعة الحال- هم أكثر مقدرة على التعرف على المعلومات الخاطئة، والمؤذية، والتعامل معها بالشكل الصحيح. يمكن أن يساعد نظام المناعة المعرفي القوي أيضاً في اكتشاف الأفكار السيئة في مرحلة مبكرة مما يوفر ليس فقط الوقت، أو الطاقة أو المال، بل ويوفر الإنسان الذي قد يكون سبباً في ضياع حياته، وحياة من حوله بسبب فكرة، أو معلومة سيئة. ويعتقد أن الجهاز المناعي العقلي يعمل بطريقة مماثلة لنظام المناعة البدني في الجسم، فإذا كان الغرض من النظام الجسدي للخلايا المناعية هو الكشف عن مسببات الأمراض بما في ذلك البكتيريا والفيروسات، بحيث يمكن طردها من مجرى الدم والأعضاء قبل أن تتاح لها الفرصة للتسبب في ضرر، فإن نظام المناعة العقلية السليم سيكتشف المعلومات الضارة أو غير الصحيحة التي تدخل أذهاننا، بحيث يمكن التعرف عليها على هذا النحو ثم رفضها على الفور قبل أن تحدث الضرر المترتب على قبولها وتفعيلها. لقد قام البروفيسور آندي نورمان، مدير مبادرة الإنسانية في جامعة كارنيجي ميلون، بنحت مصطلح "المناعة العقلية"، وتعود الأبحاث الخاصة بالمناعة العقلية إلى خمسينات القرن الماضي، ولكن المجال لا يزال يعتبر حديثاً في الدراسات الأكاديمية، فلقد أكد نورمان في هذا الكتاب أنه يمكن تعزيز المناعة في عقولنا ضد ما أطلق عليه "الفساد الأيديولوجي" و"طفيليات العقل"، مما يزيد من قدرتنا على التفكير النقدي، وهذا بدوره يساعدنا على اكتشاف الأفكار السيئة وإزالتها قبل أن تسبب الضرر لنا ولمجتمعاتنا. إن المناعة الفكرية المنشودة اليوم هي المناعة التي تحمي عقل الإنسان من المؤثرات الداخلية والخارجية غير الوطنية، والتي بدورها تؤثر سلباً على انتمائه لوطنه، وتهدد هويته الوطنية، فما أطلق عليه نورمان "الفساد الأيديولوجي" و"طفيليات العقل" والتي بحاجة إلى العمل على تعزيز المناعة في عقولنا ضدها ليست دائماً أفكاراً خارجية أو دخيلة، فقد تكون هذه الأفكار أفكاراً تاريخية مرتبطة بزمن معين فيتم استحضارها في غير سياقها للتشويش على الانتماء الوطني للشباب، وهذا يتطلب أيضاً تطوير مرونة معرفية أكبر لدى شبابنا من الجنسين تسمح لهم بتغيير أفكارهم بشكل أسرع عندما يتم تقديم معلومات جديدة أفضل، وهذا من باب "الحكمة ضالة المؤمن فأنى وجدها فهو أحق الناس بها". باختصار، يؤدي الابتعاد عن أنماط التفكير الجامدة إلى تحسين العلاقة مع المعارف والعلوم والأيديولوجيات والإجراءات الناتجة عنها. إن الحاجة اليوم لخلق مناعة فكرية لدى شبان وشابات هذا الوطن أصبحت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، لا سيما مع ثورة المعلومات ووسائل التواصل الحديثة التي كَثَفَت وبشكل غير مسبوق من الأفكار، وقادت إلى سرعة انتشارها، وجعلت التمييز بين الأفكار التي أطلق عليها تاوبر "ذاتية" و"غريبة" أمراً في غاية الصعوبة. ويعتبر النظام التعليمي بما ينطوي عليه من مكونات وأدوات هو النطاق الأهم لخلق هذه المناعة العقلية، وهو موضوع سنعود له قريباً.