بالجزء الأول من خطبة الجمعة الأسبوع الماضي، اتحفنا أمام المسجد بخطبة تحدثت عن التقاعد والمتقاعدين، والتي نجحت في الرفع من الروح المعنوية للمتقاعدين، باعتبار أن التقاعد مرحلة مهمة من مراحل الحياة التي يمر بها الجميع بأوقات متفاوتة من الزمن. إشكالية مرحلة التقاعد تَكمن في عدم التخطيط المسبق لها نفسياً واجتماعياً واقتصادياً وحتى أسرياً رغم العلم المسبق بها، مما يجعل تقبلها بالنسبة للمتقاعد برحابة ووساعة صدر أمراً في غاية الصعوبة، مما قد يتسبب في دخوله بمرحلة من مراحل الشعور بإحساس الفراغ القاتل والشعور بالإحباط والإحساس بالاكتئاب، سيما وأن هذا الفراغ يأتي بعد مرحلة طويلة من العمر قضاها المتقاعد في حياة عملية حافلة بالإنجاز ومليئة بالعطاء. مرحلة الخوف من التقاعد تبعث إلى نفس المتقاعد بالتشاؤم والخوف من المستقبل وكأنها نهاية الحياة بالنسبة له، كما وتبدأ عبارات التشاؤم والإحباط تتسلل إلى نفسه رويداً رويداً، حتى تصبح حقيقة وواقعا يصعب تغييره، لينطبق على المتقاعد المثل الشائع المتداول "مُت قاعداً"، مما يفقد المتقاعد لذة الحياة وتكون بالنسبة له أمراً غير محفز لاستمرار في المحافظة على حيويته ونشاطه وكبديل عن ذلك فهو يستسلم للكسل وللخمول والشعور بعدم أهميته الاجتماعية أو حتى بأهميته كإنسان مهماً بالحياة في حالات متأخرة. وما يزيد من الطين بلة بالنسبة للمتقاعد، الانخفاض الملحوظ في مستوى الراتب الشهري الذي كان يتقضاه أثناء تواجده على رأس العمل، وبالذات العسكريين والمهنيين والفنيين الذين في الغالب ما يكون الجزء الأكبر والأعظم المكون لرواتبهم عبارة عن بدلات مختلفة ومتنوعة حسب طبيعة العمل، مما سيخلق له ولأسرته مشكلة أخرى لم تكن لا على البال ولا بالحسبان بسبب التغير الجوهري الذي طرأ على مستوى الدخل. إن الخروج من مأزق ومعاناة التقاعد، يتطلب من المتقاعد الاستعداد والتهيئة النفسية والاجتماعية والاقتصادية والأسرية، وبالذات المالية، بحيث لا يكون المتقاعد عرضة لحاجة الآخرين، سواء للأقارب أو للأصدقاء والزملاء أو حتى لمؤسسات التمويل، تفادياً لأن يخلق لنفسه ولأسرته مشكلة أخرى بسبب الغرق في الديون وفي الالتزامات المالية. إن استعداد المتقاعد قبل التقاعد بفترة في البحث عن مصدر دخل آخر وهواية يمارسها تتناسب مع طبيعة وظروف حاضره وقدراته، يُعد أمراً مهماً لبقاء المتقاعد على قيد الحياة وهو محتفظ بفكره وبحيويته وبنشاطه، وبحيث أن يكون قادراً على التخلص من شبح الوحدة والعزلة والإحساس بفقدان أصدقاء العمل والمتعاملين معه، وبالذات من ذوي المصالح. برأيي أيضاً أنه تقع على جهات العمل والجهات المعنية بشؤون المتقاعدين بالدول، بما في ذلك جمعيات المتقاعدين، مسؤولية ودور كبير جداً في ابتكار البرامج المحفزة للمتقاعدين التي تشعرهم بوجودهم وأن المجتمع لا يزال بحاجتهم. فمثلاً من بين المبادرات والبرامج المحفزة للمتقاعدين والمُسَاعدة لاستعادة حيويتهم ونشاطهم، إنشاء نوادٍ رياضية خاصة بهم والتأمين الطبي عليهم وعلى أسرهم، وابتكار برامج ادخار وبرامج تخفيضات وخصومات لهم بل وحتى إعفاؤهم من بعض رسوم الخدمات، والاستعانة بهم في مجال الاستشارات، وتوجيه الدعوات لهم لحضور المناسبات الرسمية، كما وأناشد في هذ الخصوص الأممالمتحدة من خلال المفوضية المعنية بحقوق الإنسان، بتخصيص يوم عالمي لتكريم المتقاعدين، سعياً لأن لا يكونوا نسياً منسياً. أختم مقالي بالتأكيد على أن المتقاعدين ثروة وطاقة وطنية عظيمة يجب المحافظة عليها واستغلالها الاستغلال الأمثل في مجالات عدة تتناسب مع الخلفية العلمية والعملية للمتقاعد والخبرات الطويلة المتراكمة حتى لا تذبل وتكون عرضة للهدر والضياع لينتهي الأمر بالمتقاعد لأن يصبح عبئا على نفسه وعلى أسرته وعلى مجتمعه ووطنه وبلاده.