نظرية التفوق الحضاري الغربي -أو ثقافة الحضارة الغالبة- لا تعترف بالآخر أياً كانت ثقافته أو حضارته أو قيمه أو مبادئه أو عاداته أو تقاليده؛ لأنها تراهم أتباعا ومهزومين ومغلوبين لا يستحقون الاحترام وليسوا أهلاً للتقدير حتى وإن قبلوا بثقافة الحضارة الغالبة، ونفَّذوا مطالبها، وعملوا بمبادئها وقيمها، وأخذوا بعاداتها وتقاليدها، لأنها تراهم في مرتبة حضارية دُنيا، ومنزلة إنسانية أقل، ومكانة اجتماعية أدنى.. قرون عديدة من الاِستعمار الغربي لمناطق وأقاليم المجتمعات الأفريقية والآسيوية وأميركا الجنوبية، قرون مُتعاقبة من التفوق الصناعي والتِقني والتكنولوجي الغربي على غيرها من المجتمعات، قرون متتالية من التقدم الاقتصادي والنهضة التنموية والتطويرية والتحديثية التي سبقت بها المجتمعات الغربية غيرها من المجتمعات، قرون متواصلة من التميز العلمي والبحثي والطروحات الفكرية المؤصلة سبقت بها المجتمعات الغربية غيرها من المجتمعات والأمم، قرون متتابعة من الإبداعات في المجالات الخدمية والصحية والهندسية والفضائية والفيزيائية والبنية التحتية تفوقت بها المجتمعات الغربية على غيرها من المجتمعات والأمم، جميعها -وغيرها كثير من المجالات الإبداعية- رسَّخت في عقول وقلوب أبناء المُجتمعات الغربية نظرية تفوق الحضارة والأمم الغربية على غيرها من الحضارات والأمم حتى أصبحت -مع تقادم الأزمان- ثقافة تُحرك السياسات والمُمارسات العامة، وتقود السلوكيات والتصرفات الفردية والشخصية، وتؤثر في توجهات الرأي العام تجاه المجتمعات الأخرى، وذلك من مبدأ التفوق الغربي على باقي الحضارات والأمم، ونظرية التفوق الحضاري الغربي، التي ترسَّخت حتى أصبحت ثقافة تمكنت من عقول وقلوب أبناء المجتمعات الغربية، انحرفت بالمفاهيم السَّامية لِمعاني وأهداف وغايات التفوق والإبداع نحو الاتجاهات السَّلبية لتجعل من التفوق مُرادفاً للغلبة، والإتباع، والسيطرة، والإكراه، والاستعلاء، والانتصار، والفوقية، والاستبداد، والتفرد، والهيمنة، والتسلُّط؛ ولتجعل من الآخر المختلف حضارياً وثقافياً أهلا للتبعية، والاِنْغِلاب، والهزيمة، والانكسار، والإخفاق، والخيبة، والخسران، والفشل، والاستسلام، والاندحار، وغيرها من معاني سلبية مقيتة. وهذا الانقلاب في المفاهيم بين الإيجابي والسلبي أثر تأثيراً مباشراً في العقائد والتصور والإدراك لدى أبناء المُجتمعات الغربية حتى أصبحت تعيش في صِراعات نفسية عظيمة بين ما ترسخ في عقولها وقلوبها من مفاهيم، وبين ما تراه وتسمعه وتُشاهده في المجتمعات والحضارات الأخرى، وهذه الصِراعات النفسية العظيمة التي تعيشها المجتمعات الغربية صاعدت من حالة الانقسام الحضاري والثقافي والفكري بينها وبين غيرها من المجتمعات وخاصة الحضارات والأمم ذات المبادئ والقيم الأصيلة والراسخة، فإذا كان هذا التوصيف يُعبر عن الواقع الراهن الذي تعيشه المجتمعات والحضارات والأمم، فما الذي يمكن أن يحدث في المُستقبل نتيجة هذا الانقسام العالمي في المفاهيم الحضارية والثقافية؟ إن واقعنا المعيش يُعبر بوضوح عن حالة كبيرة من السلبية المتقدمة التي تُنذر بمستقبل أكثر سلبية وصعوبة على المجتمعات المُسالمة، والهادئة، والمُهادنة، وصاحبة المبادئ والقيم الأصيلة والعريقة، وهذه السلبية المُتقدمة مصدرها الرئيس ترسُخ ثقافة الحضارة الغالبة لدى أبناء المجتمعات الغربية تجاه غيرهم من المجتمعات، فترسُخ ثقافة الحضارة الغالبة لدى المجتمعات الغربية جعلهم يرون أن ثقافتهم هي الثقافة الأصيلة وغيرها غير أصيل، وبأن حضارتهم هي الحضارة العريقة وغيرها غير عريق، وبأن مبادئهم هي المبادئ السليمة وغيرها غير سليم، وبأن قيمهم هي القيم الصحيحة وغيرها غير صحيح، وبأن أخلاقهم هي الأخلاق الحميدة وغيرها غير حميد، وبأن عاداتهم وتقاليدهم هي العادات والتقاليد المتطورة والحديثة وغيرها غير متطور وغير حديث، وبأن أفكارهم وأطروحاتهم هي الأفكار والأطروحات الإبداعية والخلَّاقة وغيرها غير إبداعي وليس خلاقاً، وبأن نُظُمُهم السياسية هي النُّظُم المعتدلة والوسطية وغيرها غير معتدل وغير وسطي، وبأن مناهجهم التعليمية هي المناهج الأكثر اعتدالاً ووسطية وغيرها مُتخلف ورجعي، وبأنهم ومسؤوليهم هم الأقدر والأجدر على تقيم وتطبيق معايير حقوق الإنسان ومنح الحريات وغيرهم لا يعترف بحقوق الإنسان ولا يمنح الحريات، بالإضافة لغيرها من مجالات ومستويات المُقارنة السلبية المقيتة، حتى أصبح أبناء المُجتمعات الغربية يرون أنفسهم المُجتمعات المِثالية التي يُقتدى بها، بينما المجتمعات الأخرى مجتمعات همجية ومتخلفة وغير حضارية! ونظرية التفوق الحضاري الغربي -أو ثقافة الحضارة الغالبة- التي ترسَّخت تدريجياً على مدى قرون مُتتالية حتى تمكنت من عقول وقلوب أبناء المجتمعات الغربية دفعتهم دفعاً للتدخل في الشؤون الداخلية للدول والمجتمعات الأخرى رغبة في فرض سياساتهم وتحقيق مصالحهم الذاتية، وقادتهم بِجهلٍ كبير وغباء غير مسبوق للتدخل في قيم ومبادئ المجتمعات والحضارات الأخرى رغبة في تغيرها لما يتناسب ويتماشى مع قيم ومبادئ المجتمعات الغربية، وساقتهم بلا عقلٍ وبلا رُشدٍ للانتقاص والاستهزاء بعادات وتقاليد وثقافات المُجتمعات والحضارات الأخرى سعياً في تشويهها ورغبة في طمسها في قلوب وعقول أبناء تلك المُجتمعات والحضارات ليتخلوا عنها ويهجروها للثقافة والحضارة الغربية الغالبة، وهذه الصور المُتعددة لنظرية التفوق الحضاري الغربي -أو ثقافة الحضارة الغالبة- تُعبر بجلاء ووضوح شديد عن العقلية الاستعمارية القديمة التي تميزت بها المجتمعات الغربية، إلا أنها في وقتنا الحاضر تلبس لِباساً جديداً وتظهر بصورة مُزخرفة وجميلة عنوانها التقدم والتحضر والتطور والحداثة وشعارها حقوق الإنسان، والحريات، والعدالة، والمساواة. وهذه العقلية الاستعمارية المُتجددة لم تكتفِ بالتنظير لأهدافها البغيضة ولم تكتفِ بالحديث عن غاياتها المقيتة، بل إنها تسعى -عبر أدواتها المُتعددة والمُتشعبة- لِفرض مبادئها وقيمها وعاداتها وتقاليدها لجعلها سياسات ثابتة، وممارسات قائمة، وسلوكيات معترف بها، وثقافة سائدة، داخل المجتمعات والحضارات الأخرى المختلفة عنها، وهذه العقلية الاستعمارية المُستمدة من ثقافة الحضارة الغالبة لديها قدرة كبيرة جداً على عرض رؤيتها بما يتناسب وتوجهات العامة، ولديها مهارة كبيرة جداً في تسويق أفكارها بما يتماشى مع رغبات وتوجهات المجتمعات المستقبلة، ولديها قوة كبيرة جداً على توظيف مختلف المناسبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والرياضية وغيرها من مناسبات لِخدمة أهدافها وغاياتها البغيضة للفطرة الإنسانية والأخلاقية السَّوية والمُدمِرة لقيم ومبادئ وعادات وتقاليد وأخلاقيات المجتمعات والحضارات الأخرى. وفي الختام من الأهمية القول إن نظرية التفوق الحضاري الغربي -أو ثقافة الحضارة الغالبة- لا تعترف بالآخر أياً كانت ثقافته أو حضارته أو قيمه أو مبادئه أو عاداته أو تقاليده؛ لأنها تراهم أتباعا ومهزومين ومغلوبين لا يستحقون الاحترام وليسوا أهلاً للتقدير حتى وإن قبلوا بثقافة الحضارة الغالبة، ونفَّذوا مطالبها، وعملوا بمبادئها وقيمها، وأخذوا بعاداتها وتقاليدها، لأنها تراهم في مرتبة حضارية دُنيا، ومنزلة إنسانية أقل، ومكانة اجتماعية أدنى، هكذا هي ثقافة الحضارة الغالبة تُذكرنا بالعقلية الاستعمارية البغيضة القائمة في أساسها على العُنصرية العرقية البغيضة، والصراع الحضاري والثقافي والديني المُدمِر، والتمييز بين البشر على أساس اللون والشكل والموقع الجغرافي، والاستعلاء على الآخر الأقل في التطور والتنمية والتحديث، والنهب والسلب الممنهج لثروات وخيرات المُجتمعات المُسالمة القريبة والبعيدة، إن ثقافة الحضارة الغالبة -التي لا تؤمن بالآخر- تُساهم مساهمة مُباشرة في تصعيد حالة الصراع بين الحضارات والثقافات في المستقبل، خاصة إن تمسكت كل حضارة بقيمها ومبادئها، أو تساهم مساهمة مباشرة في عدم استقرار المجتمعات الأخرى المُختلفة عنها حال لم تتنبه تلك المُجتمعات المُسالمة للمخططات التخريبية والتدميرية التي تعمل عليها ثقافة الحضارة الغالبة.