للخروج القسري من الوطن الكثير من الانعكاسات السلبية على النفس البشرية، فالنفس تخرج حينها من عالم المألوف إلى عالم اللامألوف بكل ما يحمله هذا العالم من اختلافات وتناقضات، ويتخذ -هذا الخروج- طابع الصدمة التي تبدأ من لحظة الفراق ومغادرة مكان المنشأ إلى لحظة الوصول إلى المكان الجديد. وسيعاني المُهاجِر والمَنفيّ من أعراض الفوبيا، كالأرق والكوابيس والأفكار المزدحمة التي تطرأ على شكل إنذارات خوف، تجنباً لفيض المخاوف ذات الطابع الكارثي. وبذلك تكون هذه التجربة ذات طبيعة صادمة وكامنة عصابياً، متمثلة في سلسلة من الأحداث التي تشكل حالة أزمة. تنتج هذه الأزمة -بطبيعة الحال- على المستوى الذهني والنفسي من الفقدان الهائل عند هذا المنفي أو المُهاجِر لأكثر الأدوات قيمة ومغزى: الأشخاص والأشياء، والأماكن، واللغة، والتاريخ، والحضارة، والعادات والمناخ، وأحياناً المهنة والمكانة الاجتماعية والاقتصادية، كل هذا يقود إلى حالة من الرثاء والحزن على الوطن المفقود وحتى وإن كان خروج الإنسان جاء كنتيجة قرار اختياري فإن الأذى النفسي سيستمر، وإن كان في صورة من الكآبة والشعور بالذنب والرغبة الدائمة في العودة. وقد يصور هذا الفقدان الهائل المترتب على الخروج القسري من الوطن ما كتبه الأديب الإسباني ميجيل دليبس في "يوميات مهاجر"، عن تجربته العميقة والمحزنة في مواجهة الجديد والمجهول. البطل الرئيس، لورنزو، الذي يهاجر من إسبانيا إلى تشيلي يقول: "نزلنا من سفينتنا في بوينس آيريس لنواصل سفرنا بالقطار إلى تشيلي، أحسست بالانقباض حين شاهدت ذلك الكم الهائل من البشر، لم أرَ له مثيلاً في حياتي. خمسة ملايين وجه يسير من أمام أنفي دون أن أتعرف على واحد منهم، قلت لنفسي: هذا أتعس من الصحراء. ثم شعرت بألمٍ شَمِلَ كل شيء، ولم أستطع إيقافه. بدأت أتذكر بلدي وبيتي وأصدقائي والمزارع، فسألت نينا، يا ترى ماذا يفعل أهلي الآن؟ وكم الساعة عندهم؟" ولا يتوقف الفقدان على ما تركه المهاجر خلفه، بل قد يقابل في بلد المهجر ما يزيد عليه متاعبه النفسية، في روايته القلعة يصور فرانز كافكا نفور أهالي القرية الكبير من قدوم بطل الرواية، مسّاح الأرض، فحتى الذين حاولوا مساعدته وحمايته قالوا له: "أنت لست من القلعة، أنت لست من القرية، أنت لا شيء. ولكن مع الأسف، أنت شيءٌ ما، أنت غريب، أنت شيءٌ زائدٌ يقف عثرةً في كل مكان ويثير المتاعب".