استوقفتني محادثة أجريتُها مع إحدى العقليات الجميلة في مجال الترجمة، حين ذكرت لي أنَّ نجاح المترجم يعتمد أولاً وأخيراً على ممارسة مهنة الترجمة عمليًا، فهي الأصل ولا يهم معها الإلمام العميق بدراسات الترجمة بما فيها من أطرٍ، وتحليلٍ، ونظرياتٍ قائمة على مقارنات وأسس، وكأنَّها تلمحُ إلى أنَّ دراسة الترجمة ليس لها منزلة يُعتد بها مقابل مزاولتها. ويظهرُ أنَّ الكثير من العاملين في مهنة الترجمة يرون مثل رأيها، بل ويظنون أنَّ الأكاديميين، والباحثين في مجال الترجمة تحديدًا فئةٌ متعاليةٌ بعيدة عن الواقع والممارسة، لا تحسن سوى نضد العبارات المقعرة، ورصف النظريات الفلسفية خالية المعاني، وإطلاق الأحكام بكل تحيز، مستندين في ذلك إلى مفاهيم بعيدة عن حياة المترجم «الحقيقية»! وقد يُوصفُ هؤلاء الباحثون بالجهل؛ لأنهم لم يمارسوا مهنة الترجمة باعتبارها مصدرًا للدخل. ولم يختبروا قسوة دار النشر والترجمة، وإلحاح مدير المشروع، ورغبات العميل، ولم يقعوا تحت وطأة الطلبات المتلاحقة والتدخلات المستمرة، والتطلعات غير المنطقية، وضراوة الكفاح للحاق بمواعيد تسليم الأعمال حسب العقود المبرمة، ولا قضوا في عتمة مقصورة الترجمة ساعات ممتدة لأيام متتابعة، بكل ما تخبئه هذه الحجر من إجهاد، وما تحتاج إليه من تركيز، وما تقدمه من متعة. ولكل من يفكر بهذه الطريقة أقدم فكرتين للتأمل: الفكرة الأولى: إن الترجمة، بلا شك، أحد أقدم الفنون التي مارسها الإنسان عبر العصور. وهي ممارسة فطرية عملية تشبه غيرها من الممارسات البشرية كالتجارة والسياسة والتربية والموسيقى، التي بدأت عبر التجربة والخبرات المتراكمة، قبل أن تتطور مفاهيمها ومصطلحاتها النظرية وتصبح مجالا للبحث والدراسة. أما وضع الأسس والقواعد لأيِّ ممارسة بشرية لتصبح علما فهو أحد أسمى وأعقد المهن المعرفية التي تقوم عليها نهضة الأمم والحضارات، والبحث في اللغة والترجمة، تحديدا، والتأمل في تداخلاتها، ومحاولة تأويل ودراسة إشكالاتها، وجودتها، وتأثيرها هو فن لا يتصدى له إلا عدد قليل من الناشطين المختصين الذين رفعوا بنشاطهم هذا من قدر المهنة، ومنحوها مكانتها المستحقة، فالدراسات النظرية للترجمة هي التي ارتقت بهذه الممارسة البشرية العتيقة والعظيمة إلى مقامات عالية، وأصبحت من الحقول المعرفية الرفيعة التي تدرسها وتدعمها جامعات العالم وتنشأ لرعايتها المؤسسات والهيئات، فضبطت أسس تدريسِها، وتدريبها، وأخرجت مكامن الإبداع فيها. الفكرة الثانية: إنَّ كثيرا من الباحثين في مجال دراسات الترجمة قد مارسوا أو يمارسون المهنة أيضًا، وذاقوا لذتها وشقاءها، ويدركون بحقٍ دورها المهم، والفاعل؛ فتصدوا لحل إشكالاتها، ودافعوا عن قضاياها، حاملين بذلك همين ومهمتين: علمية وعملية. وأخيرًا أخبرت محدثتي العزيزة بأنني أؤمن بأن جناحي الترجمة هما الدراسات والتقنية، ورأسها الممارسة. ويبدو أنني أؤمن الآن (في عصر التقنية المتسارعة) بأنَّ جناحيها الدراسات والممارسة ورأسها التقنية! فلا هذا يغني عن ذاك، ولا يتم هذا إلا بهذا. * أستاذ دراسات الترجمة المساعد – جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن