يبدو أن الدببة القطبية وطيور البطريق اللتين عاشتا لحقب طويلة بسلام وتسامح في القارة القطبية المتجمدة، بعيداً عن أصوات البنادق، والمدافع وأزيز الطائرات وأجواء الحرب الساخنة ومعارك النفط والطاقة، لن تستمر في الاستمتاع بالشتاء القطبي الهادئ في المرحلة القادمة، كون اللاعبين الكبار، وضعوا أرجلهم في القطب المتجمد، ويريدون تخفيض درجة حرارته، وإخراجه من دائرة التجمد إلى دائرة التذويب والتسخين.. لماذا؟ نحاول الإجابة عن هذا السؤال الشائك، بعد إعلان الخارجية الأميركية، استحداثها منصب سفير في القطب الشمالي، بهدف تكثيف دبلوماسيتها في القارة المتجمدة حيث لم يحظ بالقراءات والتسليط الإعلامي العالمي بالتحليل لتداعياته، رغم أن القرار الأميركي يمثل أهمية كبرى من الناحية الجيو-استراتيجية، على مستوى الصراعات بين الدول الكبرى، والرهانات والتوازنات الجيوسياسية، في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وتزايد حرب الطاقة من جهة، ومن جهة أخرى حرص بكين على إيجاد موطئ قدم بالقطب الشمالي، وإنشاء طريق الحرير القطبي كجزء من مبادرة الحزام والطريق التي تنفذها في أنحاء عدة من العالم، الأمر الذي ينبئ بمزيد من تأجيج الصراعات المتأزمة أصلا بين واشنطن وموسكو، وتسخين جبهة القطب الشمالي المتجمد وصب النار في زيت النفط المشتعل أصلا. التوازنات العالمية وعزا المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية أن السفير المتجول تم تعيينه لتعزيز السياسة الأميركية في المنطقة القطبية الشمالية، وسط تعضيد روسياوالصين لوجودهما في المنطقة القطبية مع ظهور ممرات مائية جراء التغيّر المناخي تسهل الوصول إليها. ويأتي الإعلان عن منصب السفير الأميركي المتجول لمنطقة القطب الشمالي، في الوقت الذي تبدأ فيه محادثات في غرينلاند بشأن منطقة القطب الشمالي. وتحققت الخطوة الأولى نحو تشكيل مجلس المنطقة القطبية الشمالية عام 1991، عندما وقّعت الدول الثماني خطة استراتيجية لحماية البيئة في القطب الشمالي. وفي العام 1996 أنشأ إعلان أوتاوا المجلس ليكون منتدى لتعزيز التعاون والتنسيق والتفاعل بين دول المنطقة، بمشاركة مجتمعات السكان الأصليين، للتعامل مع قضايا مثل التنمية المستدامة والبيئة. والجدير بالذكر أن المنظمة نشأت بعد فترة قليلة من انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة. وأكد الخبراء أن القطب الشمالي شهد مرحلة من الاستقرار الجيوسياسي، وذلك في ظل غياب تنافس القوى العظمى في المنطقة، معتبرين أن ذلك يشكل نموذجاً للعلاقات بين الدول في العالم الجديد (الصين تتموضع في القطب) إلا أن صعود الصين واعتبارها دولة قريبة جغرافياً من القطب الشمالي، والعسكرة الروسية لمياه القطب، والتقارب بين روسياوالصين، وضعت المنطقة مجدداً في حلبة التنافس بين القوى العظمى نفطا وغازا وعسكرة. ومن وجهة نظر الخارجية الأميركية، يشكل القطب الشمالي أهمية وأولوية استراتيجية أساسية للولايات المتحدة، فيما تعزز روسيا وجودها بالقرب من القطب الشمالي من خلال نشر غواصات وطائرات حربية، بينما تبني الصين محطات أبحاث في القطب الشمالي يُنظر إليها على أنها مقدمة لتواجد أكبر. أنطوني بلينكن وزير الخارجية الأميركية قال في اجتماع سابق لمجلس القطب الشمالي إن دول المنطقة لديها مسؤولية لضمان "التعاون السلمي". وسيحل منصب السفير الأميركي لدى منطقة القطب الشمالي الجديد مكان منصب المنسق الأميركي لشؤون القطب الشمالي والذي يشغله الدبلوماسي جيم ديهارت. وسيتعامل السفير الجديد مع دول القطب الشمالي السبع الأخرى (كندا، الدنمارك، فنلندا، أيسلندا، النرويج، السويد، وروسيا) وعلّقت سبع دول من أصل ثماني يتشكل منها المجلس مشاركتها هذا العام، لأن الرئاسة الدورية تتولاها روسيا التي تواجه مقاطعة غربية بسبب العمليات العسكرية في أوكرانيا. روسيا وتعزيز النفوذ وكان وزير الخارجية الروسي لافروف قد أوضح بشكل مباشر مؤخرا أن القطب الشمالي هو منطقة نفوذ روسي، محذّراً الدول الغربية من امتلاك طموحات في المنطقة القطبية الشمالية. ورد عليه نظيره الأميركي بلينكن في حينه حيث، عبر عن مخاوف حيال مسألة زيادة بعض الأنشطة العسكرية في القطب الشمالي التي تزيد أخطار حصول حوادث وتقوّض الهدف المشترك المتمثل بمستقبل سلمي ومستدام للمنطقة. وأكد أن الأمر الذي يجب أن نتجنّبه هو عسكرة المنطقة. فيما أوضح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي يوم الجمعة الماضية، من أن التهديد الذي تشكله روسيا في المناطق القطبية الشمالية، معربا عن قلقه بشأن وصول الصين إلى القطب الشمالي. القطب والتواجد العسكري وحرصت الإدارة الأميركية قبل توقيع معاهدة إنشاء المجلس على إدراج ملاحظة تشير أنه: "لا يجوز لمجلس القطب الشمالي أن يتعامل مع المسائل المتعلقة بالأمن العسكري". وبعد 23 عاماً من ذلك اعترف وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو في كلمة ألقاها في اجتماع المجلس في فنلندا عام 2019 بأن الظروف تغيرت وأصبحت المنطقة ساحة للنفوذ والتنافس ويجب على دول القطب الشمالي الثماني التكيف مع المستقبل الجديد. وفي العام 2018، أصدرت الصين وثيقتها الأولى حول استراتيجيتها الخاصة بالقطب الشمالي، وتحدثت عن طريق الحرير القطبي كجزء من مبادرة الحزام والطريق التي تنفذها في أنحاء عدة من العالم وتشمل مشاريع تعاون مع الدول الراغبة في إنشاء البنى التحتية. بالمقابل، تعمل روسيا على تعزيز وجودها العسكري والتجاري في القطب الشمالي من خلال إنشاء قواعد عسكرية جديدة، وتجديد القواعد القديمة، وتوسيع أسطولها من كاسحات الجليد والغواصات التي تعمل بالطاقة النووية. أهمية التغيرات المناخية وقال خبراء في مجال المناخ: إن سباق السيطرة على الموارد في أقصى شمال العالم، اكتسب زخماً، بل إنه ازداد سخونةً بسبب التغيرات المناخية، لأن ذوبان الجليد في القطب جعل من الممكن الوصول إلى مزيد من موارد الطاقة والممرات المائية، إلى جانب أن ملامح التغيرات المناخية التي يشهدها العالم، عززت رفع أسهم المكانة الاستراتيجية لمنطقة القطب الشمالي في الصراعات الدولية وتشير التحولات المناخية التي تشهدها تلك المنطقة الحيوية، من خلال هطول أمطارٍ غزيرةٍ على منطقة "غرينلاند" لأول مرةٍ في التاريخ، بسبب الاحتباس الحراري، وانكماش الرقعة الثلجية على نحوٍ غير مسبوقٍ لتصبح أقل من المعدل المتوسط. وأدت هذه التغيرات المناخية إلى تحولاتٍ جيوسياسية في منطقة القطب الشمالي؛ فمنذ العام 2018 ازدادت العمليات العسكرية لحلف شمال الأطلسي والولاياتالمتحدة في القطب الشمالي من جهة المحيط الأطلسي، إلى جانب تزايد التوترات العسكرية بين واشنطن وموسكو في تلك المنطقة. ومن الأهمية الاشارة أن هناك احتياطات كبيرة من النفط والغاز والمعادن في القطب الشمالي. وبالتالي من السذاجة الاعتقاد أنه من الممكن المضي بسياسة التعاون التي كانت قائمة قبل ربع قرن هناك، فالتنافس بين القوى العظمى لا يحكمه التعاون، بل ديناميكيات الاعتبارات الأمنية والمصالح الاقتصادية، علماً أن هناك قوتين تُعتبران قطبيتين حق (الولاياتالمتحدةوروسيا)، وثالثة (الصين) دخلت في المعادلة، كونها تريد قطعة من كعكة القطب الشمالي، خصوصا إذا نظرنا في توازنات القوى العالمية، على ضوء المعطيات الاستراتيجية الحالية فان ميزان القرى يميل نحو الصين. فالحصة الأميركية من التجارة العالمية والناتج المحلي الإجمالي يتجه نحو الانخفاض وتميل واشنطن إلى التراجع عن التزاماتها العالمية، وتنكفئ نحو الداخل، فيما تتحدى الصين بشكل متزايد هيمنة الولاياتالمتحدة. وهكذا نرى أن بحر الصين الجنوبي في طريقه لأن يصبح بحر الصين بغض النظر عن اعتراضات الدول المشاطِئة. بكينوروسيا تنافسان واشنطن في موازاة ذلك، تعمل بكين بسرعة على سد الفجوة العسكرية مع واشنطن، وتنهض بقوّة لافتة، ومع تحول ميزان القوى الاستراتيجي، أصبحت الصين أكثر جرأة وحزمًا في الوقت نفسه. وتسعى إلى الحصول على مكانة دولية أكبر، ليس فقط في المحيطين الهندي والهادئ بل أيضًا في أجزاء أخرى من العالم، منها القطب الشمالي حيث تهدد مصالح الولاياتالمتحدة، خصوصاً في غرينلاند وآيسلندا. وتستثمر الصين في الموارد المعدنية غرينلاند، وفي آيسلاندا تركز جهودها على الطاقة الحرارية الأرضية (الجوفية)، بالإضافة إلى مشروع مشترك في مجال المعلوماتية مع فنلندا لتطوير طريق حرير البيانات، وتخشى واشنطن أن تعزز الصين اقتصاد غرينلاند إلى درجة تجعل هذه تفكر في الاستقلال عن الدنمارك، الأمر الذي يهدد النفوذ الأميركي في تلك البلاد الباردة القريبة من الولاياتالمتحدة التي تملك قاعدة جوية عسكرية مهمة في قرية تدعى تول. ويتمحور موقف الولاياتالمتحدة العسكرية تجاه الأنشطة الصينية في القطب الشمالي بما فيها الاستثمارات، باستمرار واشنطن لتوجيه اتهاماتٍ إلى الصين بممارسة أنشطةٍ توسعيةٍ في بحر الصين الجنوبي والقطب الشمالي؛ وذلك من خلال العديد من الإجراءات السياسية والاقتصادية، ونجحت واشنطن إلى حد ما لتقليص الاستثمارات الصينية في غرينلاند وآيسلاندا. المحيط والحرب الباردة وكان المحيط المتجمد الشمالي خاضعاً للعسكرة إلى أقصى الحدود خلال الحرب الباردة. ونشرت كل من الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة أسلحة الردع النووي على الأطراف الشمالية للقطب. ويكفي النظر إلى الخريطة لإدراك الأهمية الاستراتيجية العسكرية للمحيط المتجمد الشمالي، فهو يجمع جغرافياً بين الولاياتالمتحدةوروسيا وبالتالي لا بد لكل من الطرفين أن يملك في المنطقة ما يضمن له ردعاً للآخر ويحرس مصالحه الاقتصادية. وقد يطرح السؤال، هل يمكن اعتبار روسيا نداً للولايات المتحدة في تلك المنطقة، فيما حجم اقتصادها أصغر بكثير من حجم الاقتصاد الأميركي أو الصيني؟ والجواب هو؛ أنه يجب الوضع في الاعتبار أن روسيا لطالما امتلكت قوة عسكرية أكبر بأضعاف مضاعفة مما يسمح به اقتصادها، وهي تعتمد على قوة العضلات العسكرية للتمكن من تغذية شرايينها الاقتصادية وتوسيع نفوذها العالمي، أو على الأقل ترسيخه حيث هو موجود. قوة روسيا في القطب وعندما يتعلق الأمر بمنطقة القطب الشمالي، فإن روسيا هي القوة العسكرية والاقتصادية الكبرى وعسكر الروس القطب بوتيرة سريعة، ورغم أن وجودهم العسكري هناك ذو طبيعة دفاعية بالدرجة الأولى، فإن القدرات الهجومية ليست غائبة عن الساحة حكمًا. وتُعتبر قاعدة آركتيك تريفويل درّة التاج العسكري الروسي في القطب الشمالي. وهي قائمة في أرخبيل فرانتس يوسف لاند حيث تهبط الحرارة إلى ما دون 40 درجة تحت الصفر في الشتاء، وتضم عدداً كبيراً من الصواريخ والرادارات ويمكن لمدرجها التعامل مع جميع أنواع الطائرات، بما في ذلك القاذفات الاستراتيجية ذات القدرات النووية. رهانات القوى وتنازع المصالح إن الرهانات كبيرة ومتعددة، في منطقة حساسة تتلامس فيها مصالح دول تتنافس في ساحات عدة، ولا يتوقع أكبر المتفائلين أن تؤدي التفاهمات إلى تحقيق الوئام والانضواء تحت لواء حماية البيئة والحيوانات القطبية، فموارد الطاقة وما في جوف الأرض والممرات البحرية هي المرمى الحقيقي في هذا الملعب وكل ملعب. ولعل أبرز الأسباب وراء ذلك هو الطبيعة الجغرافية والجيو-سياسية الفريدة لتلك المنطقة، التي تجعل من الصعب التعامل بمبدأ التحالفات والعداءات الجامدة للسيطرة على مواردها؛ فعلى سبيل المثال تتعاون كلٌّ من روسياوكندا في العديد من المجالات في القطب الشمالي، بينما لا تتفق الدولتان في العديد من الملفات الأمنية الأخرى. طريق الحرير القطبي كما تتعاون الصين مع روسيا في العديد من ملفات القطب الشمالي؛ حيث أعلنتا عن مبادرةٍ مشتركةٍ بعنوان "طريق الحرير القطبي"، في يوليو 2017، وكانت الصين من أوائل الدول التي دعمت الملاحة عبر البحر الشمالي وسط المقاطعة الغربية لهذا المسار، وبالإضافة إلى ذلك فإن هناك تعاوناً عسكرياً جيداً بين الصينوروسيا في المنطقة. وسجل القطب الشمالي ارتفاعا في درجات الحرارة بمستويات تتجاوز بكثير بقية مناطق الأرض، ما يزيد من احتمال فتح مزيد من الممرات المائية التي كان يستحيل عبورها أمام السفن التجارية والعسكرية منطقة القطب الشمالي تحوَّلت إلى بؤرةٍ جديدةٍ للصراع بين الولاياتالمتحدةوالصين؛والولاياتالمتحدةوروسيا، حيث تسعى واشنطن إلى حجب أنشطة بكين من المنطقة، ومنعها من تعزيز وجودها هناك، بما ينسجم مع توجهات إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، فضلا عن تحجيم التغلغل الروسي. إن التغيرات الجيو-سياسية في منطقة القطب الشمالي تتزايد، ولكنها لن تؤدي إلى اندلاع حربٍ أو مواجهةٍ بين القوى المختلفة في المنطقة؛ لأنها منطقةٌ استراتيجيةٌ مهمةٌ بالنسبة إلى روسيا التي تُعوِّل عليها في جميع خططها المستقبلية، كما أن التغيرات المناخية والاحتباس الحراري حول العالم يزيد أهمية المنطقة من حيث العمل والعيش والاستثمار، وهو ما يمكن أن يطلق عليه "الحضارة القطبية الجديدة".