يرى جون إهرنبرغ أن أول صيغة من صيغ تشكّل المجموعات البشرية هي العائلة، سواءٌ كانت تلك العائلة صغيرة، مكوّنة من رجل وامرأة وأولادهما، أم من عائلة كبيرة مكوّنة من عدد من ذوي القرابة الذين تربطهم صلة الدم، وتوحّدهم الضرورة والحاجة والمصلحة والخطر المحدق بهم. وبهذا يصح أن يقال: إن التجمع هو أساس أي تشكّل بشري، أي: التجمع بمعنى احتواء عدد كبير من الأعضاء. وهذا يبدأ من الأسرة، والأسرة تحتوي ثنائية المجموعة والفرد في ذاتها، وهي الوحدة السابقة لتشكّل وحدة المجتمع أو المدينة. ويستند وجود الفرد داخل مكوّن الأسرة إلى وحدة مبنيّة على مفاهيم مادية وأخلاقية، وأعضاء هذه الوحدة متفاوتون في قدراتهم؛ وهذا ما يُحوِجهم إلى أن يخدم بعضهم بعضاً؛ لكي يحققوا من خلال هذا التبادل والتشارك حياة هي أفضل مما يمكن أي يحققه أي واحد منهم بمفرده. ويمكن أن يقال بعدها: إن المجتمع أو المدينة هما المقولة الوحيدة التي يمكن تُفهم من خلالها الحياة المشتركة للأفراد خارج نطاق العائلة، ومن خلال هذه المقولة فقط يمكن للأفراد أن يخدم بعضهم بعضاً ويشتركوا تحت سقف واحد في جلب المصالح ومواجهة المخاطر. وإذا تشكّل البشر في كيان موحّد أكبر من الأسرة، ثم في كيان أكبر من المجموعات الصغيرة، فذلك ما يمكن أن يسمّى فيما بعدُ: دولة. وبالعودة إلى نموذج العائلة نقول: إنها مجال ضروري خاص يحتّم الحياة المشتركة بين أفراد المجموعة، ولا بدّ من وجود نوع من الحرّيّة للفرد فيها، لكنّها حريّة محدودة، من حيث ما يفرضه ضغط الاحتياج لدى الأفراد، ومن حيث توزّع المسؤوليات، لكنّ هذه المحدودية في الحريّة مفيدة للأسرة، وليست أمراً ضاراً بها، لأن المحدودية هنا للجزء (الفرد) مفيدة للكل (العائلة). من هنا يكمن السرّ في أن الدولة، بما أنها هي النتيجة النهائية حتى هذه اللحظة للتجمّعات البشرية المتتالية، هي كتلة واحدة تضم في كيانها مجموعة من الأجزاء والعناصر الصغيرة المختلفة من نواح عدّة، أي: المواطنين. وهؤلاء متساوون في عدد من صفاتهم وحقوقهم، ولكنْ لا مساواة مطلقة بينهم، كما أنه لا مساواة مطلقة بين أجزاء كلّ كتلة، وموقع كل واحد من هذه الأجزاء يُحدّد بحسب إمكانياته وتأثيره. إن هذا يُفضي إلى ما يذهب إليه جمال ندا صالح السلماني، حيث يستنتج أن أنظمة الحكم والمجتمعات البشرية لم تحدث دفعة واحدة، بل مرّت بمراحل تدريجية من التطور، خلال أجيال كثيرة من البشر، وخلال عصور ما قبل الأُسر والعوائل الحاكمة. والباحثون المعاصرون ليست لديهم معلومات مؤكدة عن المراحل الأولى من تطوّر نظم الحكم، وإنما توجد أدلة استنتاجية وتحليلية لعلماء وباحثين مأخوذة من البقايا الأثرية للمستوطنات السكانية، ويرى بعضهم أن هذه أدلة واقعية وحقيقية إلى حد بعيد، لأسباب عدة، منها: أن آثار مواطن انتشار السكّان بعامة تدل بوضوح على وجود أنظمة للحكم، وإن كانت بدائية. وأن فكّ رموز النقوش بخاصة يحتوي على معلومات تثبت ذلك. لقد كانت المجموعات البشرية في العصور القديمة، قبل نحو عشرة آلاف إلى ستة آلاف عام قبل الميلاد، عبارة عن تشكّلات أسريّة تعتاش من الصيد وجمع النباتات، حيث المناخ الرطب والأمطار، وحيث ينمو الكلأ والعشب وتتوافر الأشجار، وكانت طبيعة هذه المرحلة قائمة على التنقّل والترحال، ولم يكن البشر يستقرّون في مستوطنة واحدة؛ وهذا أسهم في تأخّر نشوء أنظمة حكم، حيث إن الباحثين في هذا المجال يؤكدون أن هذه الأنظمة مرتبطة باستقرار السكّان في قرى أو مدن. وفي الألفية السادسة قبل الميلاد حدث تغيّرٌ نتَج مِن تعرّض مساحات التكاثر البشريّ للجفاف وقلّة الموارد، وصارت بعض المناطق قاحلة أو شبهَ خالية من الأعشاب والنباتات والأشجار والطرائد، فاضطرّت مجموعات بشرية إلى السكنى الدائمة قريباً من مصادر المياه الدائمة، كالأنهار، والمنابع؛ فكانت تلك هي البذرة الأولى للمستوطنات السكّانية، التي مهّدت لظهور أنظمة الحكم الأولى. فالدافع الأساسي إلى تشكيل المستوطنات، ومِن ثَم تشكل أنظمة الحكم، وفقاً لهذه الرؤية، هو أن الإنسان ألجأَتْه الحاجة إلى ضمان غذائه واتقاء شرّ الجوع إلى السكنى في معظم شهور العام قرب المياه، ثم تمكّن مِن استئناس الحيوان وتربيته، ثم مارس الزراعة ليغطيَ حاجاته الغذائية التي لم يكن جهد الصيد والرعي والتقاط النباتات كافياً لها، وهذا ما شجّعه على الاستقرار. * باحث وروائي كتاب إهنبرغ كتاب المجتمع المدني في إصداره الأصلي