لا يشعر أحمد باللحظة تافهة حينما يكون برفقة العنود، دغدغة البهجة عند رؤيتها، يخفق قلبه مثل لهفة، مثل كلمات مبعثرة، يفيض حياةً منذ اللحظة التي رآها بها، الموظفة الجديدة، وهي تتجول في السوبر ماركت الذي يعمل فيه، بغنجها ودلالها وجمالها الباهر، تعلّق به إحساس غريب مريح، أنه بات متجذراً في هذا المكان، منتمياً إليه، كأنما طوال الأبدية. هنا تنشأ سعادته، وهنا تنتهي، إزاء حضور هذه الفتاة، التي لا يعرف كيف يصفها؟ تبدو كأنها غمامة، أو كأنها الحياة نفسها. كان يردد اسمها وهو في السيارة، قادماً صباحاً إلى عمله، يمنّي النفس بمشاهدة القمر يتنقل من مكان إلى آخر في السوبر ماركت، كانت العنود مسؤولة عن رواق أجهزة الحاسب الآلي، وأحمد مسؤولاً عن رواق الأجهزة الكهربائية، دون أن تطلب منه، كان يساعدها في بيع أكبر كمية من أجهزة الكمبيوتر المحمول، كي تنال مكافأة العمل، وربما ترقية أيضاً، تركَ رواقه مهجوراً، يأتي الزبائن، يلقون نظراتهم حول الثلاجات والأفران والمكانس الكهربائية، وعندما لا يجدون الموظف المختص كي يتوجهوا له بأسئلتهم واستفساراتهم، يتركونها ويغادرون. أثّر ذلك بشكل سيئ على عمله، يمكن أن يُفصَل في أية لحظة لو استمر الحال هكذا، لكنه لم يكن يكترث، لقد أعمى الحب عينيه. العنود مبتهجة بشدة بما يفعله من أجلها، هذه المساعدة المجانية، والاهتمام المفرط بها، لم تشغل نفسها بالتفكير حول السبب، ربما أرجعت الأمر إلى دماثة أخلاقه وشهامته، ربما أنه أحد أولئك الشباب الذي يجد أن من الرجولة تقديم المساعدة للبنات. في أحد الأيام كان أحمد عند مكتب المحاسبة، يضع على طاولة البيع علبة تحتوي على جهاز لاب توب جديد، من أجل تسليمه لامرأة قامت بشرائه، قبل أن يتم البيع طلبت المرأة منه أن يفتح العلبة كي تفحص الجهاز بنفسها، عندئذ قال له زميله مشيراً إلى العنود التي كانت تتحدث مع الموظف ياسر، في الرواق المخصص لياسر، بطريقة توحي وكأنه لا يوجد في العالم سواهما: انظر إليها، كم تبدو سعيدة كلما سنحت لها الفرصة للتحدث مع ياسر! إنها واقعة في حبه يا رجل. التفت أحمد بوجه شاحب مصدوم نحوهما، كانت سعيدة، تلك السعادة النادرة، السعادة التي يعرفها جيداً، حينما كان يعرفها جيداً، قبل مضي بضعة ثوانٍ دامية فقط. تتقوض تلك السعادة الآن، تنهار، صوت الدمار مرعب، اندهش أن أحداً لم يسمع صوته المدوّي. كل ما بذله من أجل الوصول إلى قلبها تبدد مثل نفحة الغبار، لقد نسي نفسه تماماً، يكاد يفقد عمله بسبب انشغاله الدائم بها، كأنما كانت شعاعاً، تبعه أحمد بطريقة غامضة، نحو المجهول. تنبعث نيران حارقة في جوفه، كأنها آتية من الجحيم، وحش ناري يلتهم قلبه بلا رحمة. لام نفسه، لأنه ما من أحد يستحق اللوم سواها، "كيف فاتني أن أنتبه إلى علاقتهما؟ يبدو أن جميع الموظفين والموظفات على دراية بها، ما عداي. كم أنا غبي وأحمق"، قال في نفسه. بينما تنهشه أنياب العذاب من الداخل، أخرج أحمد اللاب توب من علبته، ثم فجأة قال للمرأة بنبرة باردة: المعذرة يا أختي، لكن يبدو أن الكمبيوتر قد تمَّ فتحه من قبل، هل ترغبين في شرائه رغم ذلك؟ فزعت المرأة، وقالت وهي ترفع يدها بحدة: لا، لا أريد شراء كمبيوتر مُستخدَم، شكراً لأنك أبلغتني، شكراً لأمانتك أيها الشاب. ثم انصرفت خارجة من السوبر ماركت. شعر أحمد أنه ينتقم، مع ذلك منع نفسه من البكاء، شعر بالشفقة نحو نفسه، بالغضب، بالألم يصهره ويذيبه، بحصن الأمان وقد تم اكتساحه عنوة، بينما يمشي ببطء وتخاذل نحو الرواق المخصص له في السوبر ماركت. * ملاحظة: هذه القصة والشخصيات من وحي خيال المؤلفة، ولا تمت للواقع بصلة.