مخرجات زيارة اليونان وفرنسا.. مصالح المملكة أولاً ينبغي الاعتراف بأن المملكة كانت أول من استقرأ وأدرك التحولات والمتغيرات الجيو-ستراتيجية والاقتصادية والنفطية العالمية في مرحلة ما بعد الجائحة والحرب الأوكرانية - الروسية، وأعادت تموضعها الاستراتيجي سريعاً من خلال قراءتها الدقيقة للتحولات في موازين القوة العالمية؛ فضلاً عن رصدها مشهد متغيرات القوى السياسية في مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية - الروسية وتداعياتها على المشهد الأوروبي والأميركي والروسي على السواء، إن كان اقتصادياً أو عسكرياً أو نفطياً. واستمرت السياسة السعودية التفاعلية في مرحلة ما بعد الجائحة وحرب أوكرانيا في الصعود في الشرق الأوسط والمسرح الدولي وفق سياسة قوية رصينة تارة، وحذرة ومتأنية وعقلانية وشفافة وصارمة تارة أخرى، حيث وضعت المملكة مصالحها الاستراتيجية وسيادتها وقيمها وقرارها فوق أي اعتبار، لثقتها كل الثقة من مكانتها على المسرح الدولي، فضلاً عن التعامل بشفافية ووضوح ضد أي قوة تحاول المساس بمصالحها وتعطيل دورها في إحلال السلم والأمن العالميين. وتأقلمت المملكة في بعض المراحل مع أوضاع سياسية محددة، وتعاملت بهدوء مع المعطيات السياسية، كونها تؤمن بالعقلانية والحكمة والعمق، وأن الانتصار هو المحصلة النهائية لهذه السياسة، وهذا ما حصل نصاً وروحاً في منطقة الشرق الأوسط وعلى المسرح الدولي. وظهرت المملكة أكثر قوة من قبل على المحيط العالمي باقتدار، وما محاولات اقتراب العالم واستدارة الشركاء باتجاه المملكة، إلا أكبر دليل على ذلك سواء من الغرب أو أوروبا أو الشرق، على ضوء المتغيرات الجيو- ستراتيجية واحتفاظ المملكة بكل كروتها السياسية والاقتصادية، واستخدامها بحسب مقتضيات مصالحها الاستراتيجية العليا، خصوصاً أن موقع المملكة الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط ومعالجتها لقضايا المنطقة ورؤيتها العقلانية للشؤون العربية والإسلامية عزز أهميتها الدبلوماسية ومكانتها السياسية في الشرق الأوسط وعلى المسرح الدولي، فجعلها مركزًا للجاذبية في العالم. وليس هناك رأيان في أن الحرب الروسية - الأوكرانية أفرزت مشهداً جيوستراتيجياً مختلفاً في العالم، وما تبعه من ارتفاع قياسي في أسعار الوقود مطلع العام الجاري غيّر المعادلة الاستراتيجية وقواعد اللعبة الجيو-نفطية؛ لجهة المطالبة بضخ مزيد من النفط لتخفيف الأسعار، وبرز دور المملكة بشكل أقوى، كأكبر مصدر للنفط في العالم، والعضو المؤسس لأوبك والعضو في منظومة أوبك+، كقائد لمسار صناعة القرار الجيو-ستراتيجي والنفطي في العالم بامتياز. ومن هنا جاء الحراك الأميركي الشهر الماضي تجاه المملكة، والمخرجات التاريخية التي حققتها المملكة؛ عقب ذلك تحركت الدبلوماسية السعودية التفاعلية باتجاه أوروبا، والتي قادها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى اليونان وفرنسا، الدولتان ذواتا العمق الأوروبي للمملكة. لقد دفعت الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة الدول الغربية إلى تقرب الدول الكبرى للمملكة لزيارة الإنتاج لتهدئة الأسواق البترولية، إلا أن هذا القرار ليس قراراً أحادياً من جانب المملكة بل هو قرار اتخذ من منظومة أوبك +، وهي الوحيدة التي تستطيع أن تتخذ ذلك القرار وفق احتياجات السوق العالمية، وهذا ما أوضحه سمو ولي العهد للقيادات التي التقاها مؤخراً. الأمير محمد بن سلمان عاد إلى الساحة الدولية بقوة في زيارتين مهمتين إلى المحيط الأوروبي، حيث تعتبر أوروبا من أكثر المتضررين من تطورات حرب أوكرانيا، وأزمة الغذاء العالمي، وأزمة الطاقة والغاز. ولعبت جولة ولي العهد دوراً مهماً في المساعدة على تفادي الآثار الكثيرة السلبية لهذه الأزمات، خصوصاً أن الغرب وأميركا يتكئون ويرتكزون على الموقف السعودي للبحث ولو عن حلول جزئية لأزمات الطاقة. والعنوان العريض لزيارة الأمير محمد بن سلمان إلى اليونان، هو ما أعلنه عن مد خط كهرباء يربط السعوديّة باليونان، وسيُتيح هذا الخط تزويد أوروبا بالطاقة بأسعار أرخص بكثير، خصوصاً أن أوروبا بأمسّ الحاجة لتنويع مصادر الطاقة وخفض أسعارها، وقد بدأت بعض الدول الأوروبيّة بالفعل تقليص عدد ساعات الإضاءة في مبانيها الرسميّة، والتقشّف في الترفيه وصولاً لمنع المياه المُدفئة في المسابح، وذلك أملاً في توفير الطاقة. وعكست زيارة سمو ولي العهد لليونان كونها الأولى على مستوى قيادة المملكة، حرص سمو ولي العهد على مد الجسور وبناء العلاقات مع مختلف الدول الأوروبية والتطور الملموس الذي شهدته العلاقات السعودية - اليونانية مؤخراً، وما واكبه من حراك مشترك للتعاون في المجالات السياسية، والاقتصادية، والتجارية، والاستثمارية، والأمنية، والثقافية، والسياحية، في ضوء رؤية 2030 وأولويات التنمية في اليونان. وتتطلع المملكة إلى الاستفادة من أوجه التعاون الثنائية الحالية والمستقبلية مع اليونان في قطاعات الطاقة، لا سيما قطاع البترول والغاز والبتروكيميائيات، واستدامة الطلب على البترول والاقتصاد الدائري للكربون، والطاقة المتجددة، وقطاع الكهرباء، والذكاء الاصطناعي. في اليونان تم توقيع سلسلة من الاتفاقيات المهمة، وقال الأمير محمد بن مخاطباً رئيس الوزراء اليوناني: «وعدت اليونان أنني لن آتي خالي اليدين»، وذكر الأمير محمد بن سلمان أن البلدين يملكان فرصاً تاريخية يعملان عليها، من بينها ربط شبكة الكهرباء التي ستزود جنوب وغرب أوروبا عن طريق اليونان بطاقة متجددة، وجعل اليونان مركزاً للهيدروجين في أوروبا، وربط خطوط الاتصالات، موضحاً أن هذه المحاور الثلاثة تعد رئيسة و»ستغير موقعي اليونان والسعودية»، وأنها ستدعم أوروبا خصوصاً الجنوب والغرب، بطاقة أرخص وأكثر منفعة. وفي باريس حظي الأمير محمد بن سلمان باستقبال وحفاوة لافتة حين وصوله، وجرى فرش السجّاد الأحمر له في انعكاس للاحترام الذي يحظى به. ومن المؤكد أن صناع القرار في فرنسا قرؤوا التقارير التي كشفت أن تكلفة فاتورة إنقاذ سوق الطاقة في أوروبا الشتاء المقبل قرابة 200 مليار دولار، هذا عدا عن المخاوف الأكبر حول وقف روسيا إمدادات الغاز بشكل كامل، واحتمال تعرّض الأوروبيين لشتاء أكثر برودة. لقاءات سمو ولي العهد في الإليزيه أكدت ضرورة التقييم المستمر للتهديدات المشتركة لمصالح البلدين وأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، وأهمية تعزيز التعاون والشراكة في المجالات الدفاعية والتنسيق حيال الموضوعات ذات الاهتمام المشترك، ومنها: مكافحة الإرهاب وتمويله، إلى جانب التأكيد على أهمية حل النزاعات الدولية بالطرق الدبلوماسية والسلمية، والالتزام بميثاق الأممالمتحدة، ومبادئ حسن الجوار، واحترام وحدة وسيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، فضلاً عن ضرورة تكثيف الجهود للتوصل إلى تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية وفقاً لمبدأ حل الدولتين، وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة ومبادرة السلام العربية. وتملك المملكة علاقات قديمة مع فرنسا تقوم على «المصالح المشتركة»، وتعود إلى عهد ما قبل تأسيس المملكة، إذ فتحت فرنسا أول قنصلية لها في السعودية عام 1839. وتقوم العلاقات السعودية - الفرنسية على المصالح الاستراتيجية المشتركة، ومن بينها حفظ الأمن في الإقليم، والالتزام بمكافحة الإرهاب، وتبادل الرؤى بشأن الأزمات الإقليمية. ونجحت الزيارة في تنسيق المواقف بين المملكة وفرنسا حيال مستجدات الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط ودول الساحل الأفريقية، لا سيما سلوك إيران المزعزع لأمن واستقرار المنطقة وملفها النووي وبرنامجها الصاروخي، ومستجدات الأحداث الإقليمية والدولية. ويرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن استبعاد المملكة من مفاوضات الاتفاق النووي لإيران في العام 2015 كان خطأً جسيماً بحق المملكة وأمنها والأمن الإقليمي، مع دعم الجهود والمبادرات التي تهدف لتعزيز الاستقرار الإقليمي والحيلولة دون حصول إيران على سلاح نووي. وتحرص فرنسا على شراكتها مع المملكة وتعتبرها «حليفاً وثيقاً» يلعب دوراً رئيساً في الحفاظ على الأمن والسلم الإقليمي واستقرار المنطقة، لذا تعمل القيادة الفرنسية على التشاور مع القيادة في المملكة في شأن القضايا والأزمات الراهنة وسبل معالجتها. وفي ظل المشهد الدولي، وتفاقم الأوضاع بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا فإن المطلوب من فرنسا واليونان تعزيز شراكةٍ أكبر وأكثر استراتيجية تشمل العمل معًا بشكل أوثق على الاستقرار في الخليج والشرق الأوسط، والتهديدات الأمنية العالمية، وأمن الطاقة، وتغير المناخ والتحول الأخضر، خصوصاً أن تعزيز الشراكة سيعود بالنفع على كل من الاتحاد الأوروبي والشركاء في الخليج؛ حيث يعتبر الاتحاد الأوروبي أكبر سوق في العالم، ورائدًا في مجالات البحوث والابتكار، ولاعبًا أمنيًا مهمًا في منطقة الخليج والشرق الاوسط.