صاغت الحرب الأوكرانية الروسية وملف البرنامج النووي الإيراني معًا لحظة مفصلية، أعادت صياغة العلاقات الدولية وحدوث تغييرات جوهرية في التوازنات العالمية، جعلت من بعض القوى العالمية الكبرى في وضع ضعيف وأضحت دول قوية أصلاً في موقع القوى الكبرى.. وهذه الأزمات أعادت صياغة دول لعلاقاتها الجيو-استراتيجة وفقاً لمصالحها.. وأعادت الولاياتالمتحدة بوصلتها للمنطقة على ضوء أزمة الطاقة الخانقة، والعودة إلى الشريك السعودي لإدارة الأزمات المتعددة في الشرق الأوسط خصوصاً أزمة الطاقة والتي تعتبر عصب اقتصاد العالم وأميركا تحديدًا.. وبالنظر إلى مخرجات زيارة الرئيس بايدن للمملكة اتضح جلياً أن واشنطن والسعودية صاغتا ميثاقاً استراتيجياً جديداً يتفق مع المصالح والمبادئ، مبنياً على الاحترام المتبادل وعدم الإملاءات والحفاظ على قيم كل دولة. لقد انتهت قمم جدة بالتأكيد على أهمية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين وتم الاتفاق على توثيق أوجه التعاون، وبدا أن الولاياتالمتحدة تتجه إلى نوع جديد من "الواقعية السياسية"، كما طلب ولي العهد في كلمته في القمة الخليجية الأميركية.. لقد أدركت واشنطن في السنة الثانية من فترة حكم بايدن أهمية مكانة المملكة ودول والخليج للحفاظ على استقرار اقتصادات الولاياتالمتحدة والدخول في علاقة كبرى، تعمل إدارة الرئيس بموجبها على تعزيز شراكتها مع المملكة ودول الخليج وفق تفاهمات سياسية ونفطية بعيدة المدى. فعلى الرغم من أن اعتماد الولاياتالمتحدة على نفط الشرق الأوسط الذي انخفض بشكل كبير، تملك السعودية اليوم 17 في المئة من الاحتياطيات العالمية المؤكدة من النفط، وتوفر 11 في المئة من الإنتاج النفطي العالمي، ولا يزال الشركاء التجاريون الرئيسيون للولايات المتحدة في آسيا يعتمدون اعتمادًا كبيرًا على واردات النفط الخام السعودي "المنتج المتحكم" الوحيد بسوق النفط، فهي الدولة الوحيدة المنتجة للنفط التي تبلغ قدرتها الإنتاجية الفائضة بين مليون ومليوني برميل يوميًا، "وبالتالي هي قادرة على التأثير في أسعار النفط على نحو قد يساعد الولاياتالمتحدة والاقتصاد العالمي، فيما يقف الاقتصاد الأميركي على حافة الهاوية، بينما ارتفع معدل التضخم في يونيو إلى زهاء 9.1 %. لقد استندت العلاقة السعودية الأميركية على مصلحة متبادلة، كانت تعرف بمعادلة "النفط مقابل الأمن"، إلا أن الأميرة ريما بنت بندر السفيرة السعودية في واشنطن كشفت في مقال لها نُشر في صحيفة "بوليتيكو" مؤخراً "لقد ولى منذ زمن طويل الأيام التي كان يمكن فيها تحديد العلاقة الأميركية السعودية من خلال نموذج النفط مقابل الأمن الذي عفا عليه الزمن.." وأضافت "لقد تغيّر العالم ولا يمكن حل المخاطر الوجودية التي تواجهنا جميعاً، بما في ذلك أمن الغذاء والطاقة وتغير المناخ، بدون تحالف أميركي سعودي فعال". في العلوم السياسة مقاييس عدة "لجدية المواقف والقرارات" في العلاقات الدولية، أهمها المصالح المباشرة، وتأثير أصحاب القرار، والمعادلات القائمة. يبدو أن هنالك مصلحة للولايات المتحدة في التقارب مع السعودية، وهي المصلحة البترولية وحاجة الأسواق العالمية حالياً. هذا أمر واضح وحاسم. أما تأثير أصحاب القرار فهو نسبي، يتوزع بين أنصار الاتفاق النووي وأنصار تمتين العلاقات مع التحالف العربي ولكن مستقبل التقارب "الأميركي-السعودي يبقى داخل واشنطن.." هذا المصير سيقرر داخل الإدارة بين أنصار مشروع أوباما للشراكة مع إيران ويسعى البعض إلى تنفيذه من ضمن الإدارة، وبين كتل المصالح الكبرى داخل الحزب الديمقراطي التي تحسب ما بين الاقتصاد، والأمن، والسياسة. في أول عام لبايدن، نجحت "مدرسة أوباما" في قيادة السياسة الخارجية، ودفعت بالاتفاق الإيراني. أما منذ 24 يناير 2022، وبسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، وتحت الضغط الغربي والعالمي، تحرك البراغماتيون في الإدارة لإعادة العلاقة مع المملكة والتحالف بهدف عدم خسارة شركاء أساسيين وضروريين في المنطقة. ونظراً للأوضاع الداخلية الأميركية، أمام الإدارة حوالى خمسة أشهر لمزيد من تعزيز الشراكة مع الرياض، قبل الانتخابات النصفية، واحتمال عودة الأكثرية الجمهورية في الكونغرس، ونتائج عودة كهذه، إن حدثت، على السياسة الخارجية. إنها نافذة بالفعل، إما أن تكبر، وإما أن تُغلق. وامام واشنطن تكثيف العلاقات التجارية مع الرياض خصوصاً، أن حجم التبادل التجاري بينهما في العام 2021 نحو 25,069 مليون دولار، وتعد الولاياتالمتحدة الشريك التجاري الرابع للمملكة في حجم التجارة، والثاني في قيمة الواردات، والسادس في قيمة الصادرات، بينما تحتل المملكة المرتبة 28 كشريك تجاري لصادرات الولاياتالمتحدة للعالم، والمرتبة 31 كشريك تجاري لواردات الولاياتالمتحدة للعالم (2021). وتوفر برامج رؤية 2030، والمشروعات الكبرى في المملكة فرصاً واعدة للشركات الأميركية، لاسيما في القطاعات الاستراتيجية التي تستهدفها الرؤية، مثل التعدين، والبتروكيماويات، والتصنيع، والطاقة المتجددة، والسياحة، والخدمات المالية، والرعاية الصحية، والأدوية. وعليه فإن إمام الإدارة الأميركية فرصة لتعزيز الشراكة مع المملكة والبناء على ما تم الاتفاق عليه لتأكيد الشراكة التاريخية بين هذه الدول، وتعميق التعاون المشترك في مختلف المجالات.