عاشت إسبانيا تحت الحكم الديكتاتوري للجنرال فرانكو أعواما طويلة نتجت عن حرب أهلية طاحنة دامت حتى العام 1939، بعد وفاة فرانكو بالعام 1975، تسّلم الحكم الملك خوان كارلوس والأحزاب الديمقراطية الشابة التي تفتقر للخبرة الفعلية والتي كانت متناحرة فيما بينها طيلة أعوام طويلة، ليبنوا دولة ديمقراطية معاصرة. تفاقمت الأزمة الاقتصادية في العام 1977 وكادت تتسبب بكارثة اجتماعية لولا انعقاد لقاء موّسع بين رئيس الوزراء وأعضاء حكومته وممثلي المجموعات البرلمانية من الأحزاب، وكان هناك إجماع في الآراء أدى إلى اتفاق واسع النطاق بأن الإصلاح الاقتصادي واجب وطني لن يؤثر أبداً على التعددية الحزبية، حيث أدى هذا الاتفاق وفي غضون ثمانية أعوام إلى دخول إسبانيا حلف الناتو وبعدها سوق الأوروبية المشتركة، هذه إحدى قصص نجاح دولة متعددة الثقافات واللغات ضمن المجتمع الواحد، وما جمعهم هو الواجب الوطني. أما على الجهة الأخرى من حوض البحر المتوسط هناك لبنان.. ما زال يعيش منذ عقود طويلة حروبا أهلية، وشعب يعيش حالة انهيار اقتصادي واجتماعي لا تحمد عقباه. أجريت فيه مؤخراً انتخابات تشريعية ظناً أنها ستكون طوق نجاة وبادرة خير لإطلاق الإصلاح، إلا وعادت المشاحنات وكأن شيئاً لم يكن. انقسم فيها الكيان اللبناني مجدداً بين مجتمع ضائع، أقليته تنادي بدولة سيادية وأكثريته بالطائفة والولاءات الحزبية تحت ظل طبقة لا تدري حتى الآن بحجم الكارثة الاقتصادية التي تكاد أن تلغي لبنان عن خارطة العالم. تمت الانتخابات كما يريدها أركان السلطة وانتهت بنواب جدد تدّعي التغيير، انقسموا في أول مفترق طرق ونواب أُعيد انتخابهم مرات عدة وما زالوا يتبنون رؤية عدم الإصلاح والمحاصصة والصفقات نفسها التي أدت نتائجها إلى انهيار النظام الاقتصادي ومعه الاجتماعي. تبدأ اليوم مشاورات تسمية رئيس حكومة جديد، في وقت ما نزال نسمع فيه أن الحكومة لن تكون إلا سياسية لتُرضي الأحزاب المصّرة على بقاء الوضع على ما هو عليه. وفي خضم هذه المشاحنات والصراعات الحادة نشهد فئة من الطائفة السنية تهرول لتعرض نفسها لمنصب رئيس الحكومة، بدلاً من التكتل فيما بينها والإصرار على تأليف حكومة إصلاحية تنقذ ما يمكن إنقاذه. في حين ما تزال قوى الممانعة تضغط لتأليف حكومات سياسية لا تغني عن جوع. وتستمر بتجاهلها المطالب الداخلية بالاصلاح، وشروط المؤسسات المالية الدولية بالمطالب نفسها قبل الشروع بإطلاق المساعدات المالية. نشهد هرولة العديد من الأشخاص لترشيح أنفسهم لمنصب رئاسة الحكومة، منهم من هو جديد على خدمة الشأن العام، ومنهم لم ينجز أدنى واجباته الحكومية، ومنهم كونه من عائلة معروفة وكأن اسم العائلة كفيل بإنقاذ الوضع المتردي، ومنهم من لم نسمع به من قبل، فلبنان لا يحتاج زعيماً سياسياً بل رئيساً للحكومة يعمل من أجل دولة جديدة. يحتاج لبنان اليوم حكومة إصلاحية متخصصة تعيد للدولة علاقاتها الدولية، وأن يكون للدبلوماسية دوراً بالإصلاح من خلال الدبلوماسية الاقتصادية، وإعادة بناء السيادة بمعناها الوطني. فهذا لن يقلل من دور أي طائفة في لبنان، والبدء بالإصلاحات على مبدأ وضع سياسات عامة جديدة. والأهم، إشراك القطاع الخاص برمته بالعملية الإصلاحية الاقتصادية والمالية من خلال قواعد علمية ضمن ما يسمى تسويق الأمم ليكون الإصلاح مبنياً على أسس كاملة وبشراكة شعبية. في ظل هذا الجدال، ثروة لبنان الوطنية تُسرق في عرض البحر ولا أحد يأخذ الكارثة على محمل الجد. أبقوا على خلافكم السياسي واتحدوا مرة واحدة لتبنوا وطنا، أيها السادة أوقفوا الهرولة من أجل منصب أو كرسي لن يدوم، فالإصلاح لن يؤثر على تعدديتكم السياسية، واتركوا مساحة لحكومة إصلاحية تعيدنا إلى بر الأمان ومارسوا بدوركم السياسة من الندوة البرلمانية، فمهما اشتدت خلافاتنا، يبقى حب الوطن أقوى.