نكاد لا نعرف شيئاً عن المفكّر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي غير عنوان أو عنوانين من منتجه الفكري، ورغم اطلاع فئة شاسعة من القراء خاصة طلبة الجامعات في العلوم الإنسانية على بعض مؤلفاته، مثل: «الظّاهرة القرآنية» و»الإسلام والديموقراطية» و «وجهة العالم الإسلامي» إلاّ أن الرّجل ظلّ مغموراً حتى في بلده، ولنقل حتى في مدينته «قسنطينة» التي اشتهرت بعلمائها تماماً كما اشتهرت بجسورها المعلّقة. بقيت رحلة نضاله الطويلة ضد المستعمر الفرنسي طيّ النسيان، وقد اعتبر كثيرون زواجه من فرنسية مسيحية نوعاً من الخيانة لأفكاره، دون الاطلاع على تاريخ هذه الزوجة وما عانته شخصياً من بني جلدتها بسبب مواقفها ضد استعمار الجزائر، ومساندتها لزوجها طيلة حياتهما معاً. الكثير من الغموض الذي لفّ جوانب مهمّة من حياة مالك بن نبي وعائلته يكشف عنه الباحثان والكاتبان رياض شروانة وعلاّوة عمارة في كتابهما «وثائق مالك بن نبي في الأرشيف الوطني الفرنسي» قدّم له المحامي عمر مسقاوي الذي كلّفه المفكر وصيًّاً على مؤلفاته وحقوق ورثته من بعده. الكتاب صادر عن دار الفكر المعاصر، لبنان. على مدى 300 صفحة من القطع الكبير، يأخذنا الكتاب في رحلة وثائقية عميقة إلى خبايا حياة هذا المفكّر توضّح الكثير مما ذكره بنفسه في مذكّراته التي نشرت على ثلاثة أجزاء. وللتذكير فقط فإن الدخول للأرشيف الاستخباراتي الفرنسي ليس بالمهمة السهلة، فهذا الأرشيف لا يزال محلّ نزاع كبير بين الجزائر وفرنسا، ومن خلال هذا الكتاب سنعرف مكانة هذا المفكّر في خريطة الأوساط السياسية والفكرية والدينية الجزائرية واتصالها المباشر بنخب عربية عديدة ساندت الثورة الجزائرية وشاركت في نشر الوعي بين الشعوب رغم المضايقات والاعتقالات التي تعرضت لها. في الكتاب مقدّمة مهمّة وأربعة فصول كل فصل منها يحوي ملفَّاً مدعوماً بصور الوثائق الأصلية، كما يحمل تفاصيل صادمة للقارئ حول كمّ الاتهامات التي لُفِّقت لِبَن نبي وزوجته في محاولة لإيصالهما ليس للسجن فقط بل لحبل المشنقة، منها تهمة العمالة للألمان، هذا غير المضايقات التي كان يتعرض لها بين سجن وآخر، والتي كانت تنغّص حياته، وتجبره على الانتقال من مكان إلى آخر، وممارسة مهن لا تمت بصلة باختصاصه كمهندس مختص في الكهرباء ليعيش، أكثرها التعليم في مدارس للابتدائي وتكميليات، ويبدو أن «التعليم» كمهنة كان قدره، إذ جذب بأفكاره مئات الشبان الذين كانوا يتهافتون على محاضراته في النوادي والملتقيات الخاصة، لكن ذلك جعله ملاحقاً أكثر. الكتاب جدّ قيِّم، ولا يمكن قراءته دون الوقوف عند كل تلك التقارير والرسائل بتركيز وتأنٍّ، وتحليل وتمحيص لكل كلمة وردت فيه، لكن المؤسف أن مستوى الطباعة سيئ جداً، وإخراجه بسيط لا اجتهاد فيه، أمّا الوثائق التي نشرت فقد جاء أغلبها غير واضح، وهذا قلّل من مجهود الباحثين.