لم يترك أمجد ناصر في مجموعته الأخيرة «مملكة آدم» الصادرة عن دار المتوسط، (طبعة أولى 2019)، إلا وثيقة سياسية ورؤية اجتماعية فكرية تؤكد أن الموت هو متلازمة الشعراء ونواة قلقهم وهاجس تحديد هوياتهم التائهة، لنكون أمام نص تعتلج صفحاته دخان الحرب وأبجدية ما بعد الموت. الحرب والموت وما بينهما من رؤية يبدأ صاحب «سرّ من رآك» نصّه الممتد على مدى ثلاثة وستين صفحة -إذا استثنينا التقديم- بفعل ماضٍ ناقص «كنتُ»، يربطه بأناه المتعبة المهترئة التي تجاري الوقت وما ينزفه الزمن من عمر «كنتُ يومًا هذه الورقة التي تسقط في بطء» (ص.17)، وسنكتشف فيما بعد أن أمجد ناصر قد قدم لنا هذا المطلع ليكون مشهدًا سينمائيًا بقدر ما هو مشهد شعريّ مكثّف يذكرنا باختباء المقبلين على الموت بموت من سبقوهم، وما انتهجه ناصر حين اختار الاحتضار شعريًا على أرض سورية، الأرض التي لم تعرف طعم الحياة «ألا يصاب بالغثيان عندما يتنشق هواء الخردل أو السارين»(ص.22)، وهو الرمز القاتل للتنكيل البعثي بشعب أراد الحياة للياسمين وشامها، ويتابع ناصر رسم خريطة الحرب والدمار والاقتتال وكأنه يتناسى الدمار الجسدي والنفسي الذي أصابه ويواسي ذاته وقراءه بالحديث باقتناع وتعمق عن الموت الذي ينخر جسد المدن والجغرافيا والآخرين، «من رأى كيف هلك هؤلاء الذين لم يكونوا على موعدٍ مع الموت، لكنهم وجدوا أنفسهم في طريقه المرصع بالجماجم» (ص.22)، هذا المشهد «المرصّع» بصوت العنف العالي يبدو ظاهرًا تقديم مشهد عاطفي أناس يعانون من قهر طاغية، وقد أدرك صاحب «حديث عادي مع السرطان» أن الذوبان مع الجماعة يخفي هشاشته وانكساره أمام القدر المنتظر، «فليس هذا وقت أولئك الأطفال الذين يتعلقون، برعب في أذيال أمهاتهم» (ص.23). علامات ما بعد الموت أصرّ صاحب «وصول الغرباء» على لازمة واحدة بأشكال وسياقات مختلفة، لازمة الموت والتعب والشك التي أتت كلها في سلّة الهروب من واقعه نحو التوثيق يحمل يوميّة فيها الكثير مما سيتركه أمجد ناصر من وصايا رؤيويّة ومواقف فكريّة، لكن ما لم يكن في الحسبان هو قفز الشاعر من الاحتضار إلى ما بعد الموت «بلغت قاع الجحيم، هذه أشد طبقاته ظلامًا...» (ص.66)، ولعل الوصف قد خدم السرد الشعري الذي ميز الشاعر وجعله أقرب الى إليوت رائد المدرسة التصويرية، فبدأ الشاعر بالتوسع بوصف جهنم والاستطراد نحو التساؤل مجددًا عن ماهية الشعر من خلال الشعراء «ولكن، هل يحشر الشعراء في الجحيم « (ص.67)، وهذا السطر محاكاة للآية القرآنية «والشعراء يتبعهم الغاوون...» (سورة الشعراء)، ولعلّ الحوارات القصيرة التي اضطر ناصر إلى الاستعانة بها كتقنية تهيئ خيال المتلقي لتصوير حياة ما بعد الموت تذكرنا بأعمال درويش الأخيرة لا سيما لماذا تركت الحصان وحيدًا، التي تركت كمسرح انفرادي شعريّ يعبر فيه الشاعر عن حواراته الداخلية «ثم قلت للثاني الذي كان ينقل عناكب من لهب براحتيه... ما كنت سأراك هنا»(ص.67)، وحتى ما بعد الموت لم يكف الشاعر عن التساؤل بنبرة الخوف «لمَ لا أسمع سوى جمل تتدحرج من الأشداق بلا روابط» (ص.73). لم تكن مملكة آدم وثيقة سياسية أو جردة اجتماعية أو مساحة أخرى للتساؤل بل مساحة لإطلاق مانيفستو ما قبل الموت، هي مرحلة الحرية للعقل قبل المغادرة... مرحلة التنحي بهدوء عن عرش الآدمية.