ما أن أنهيت مشاهدته حتى تذكرت مقولة رجل الأعمال الناجح روس بروت، والتي تنص على أنّه: «عندما أرغب في تكوين فريق للعمل، فإنني أبحث دائمًا على الأفراد التي تريد الفوز، ولكن حينما لا أجدهم فأبحث عن الأفراد الذين يكرهون الهزيمة». نعم كان هذا الأمر منطبقاً على صُناع عمل (البحث عن علا) الذي عُرض مؤخراً على منصة (نيتفليكس) في ست حلقات مكثفة استكملت فيها الصيدلانية (علا عبدالصبور) رحلتها الحياتية بعد أن أُسدل الستار على الفصل الأول منها في مسلسل (عايزة أتجوز) الذي عُرض في عام 2010 وأصبح واحداً من الكلاسيكيات الكوميدية في الدراما العربية، ونموذجاً يُحتذى لتأسيس أعمال ناجحة وخالدة في آنٍ معاً وهذا ما يعجز الكثير عن تحقيقه وسط صعوبة تجمّع العناصر الكاملة لتألق مسلسل ما، والتي تتضمن النص محكم البناء، والإخراج العصري المستغل لكافة الأدوات الحديثة، والأداء التمثيلي الفريد الذي يحوّل الشخصيات المكتوبة على ورق إلى بشر من لحمٍ ودم وشعور وردود أفعال تترك أهم الآثار في قلوب وعقول المشاهدين. لا تقتصر قصة (البحث عن علا) على محاولة البطلة الرئيسية تجاوز صدمة الانفصال عن زوجها والشروع بإعادة اكتشاف ذاتها والتأقلم مع تحديات واقعها الجديدة، كتربية طفليها واستقلالها المادي وغيرها من الصعوبات المادية، بل تتجاوز تلك البساطة لما هو أعمق بكثير من ترسيخ أسس بنّاءة مفيدة لأُسرنا العربية، سواء بفتح باب الحوار بين الآباء والأبناء وفهم متطلباتهم واحتياجاتهم وما يعصف بنفسياتهم وتدارك المشكلات التي يمرّون بها في الأوقات المناسبة، أو من ناحية عدم الاستسلام للصدمات القاسية التي تمرّ بها المرأة في عالمنا العربي، بل المضي قدماً نحو الاستفادة من العلم والموهبة لإطلاق مشاريع مهنية مفيدة بالجمال والنظام والحكمة، وحتى بالبعد عن الاستسلام للحزن والفشل وكسر القوقعة عبر تذكير الذات بقوتها الكامنة. عند تأمل المستوى التمثيلي الذي قدّمته الفنانة (هند صبري) نجده يحمل كامل مقومات الإجادة والبراعة والإتقان والإحساس العالي بكل حركة قامت بها أو كلمة نطقت بها، الأمر الذي يدلّ على نضجها الفني وتلقائيتها وعفويتها ومشابهتها لنا في عشرات التفاصيل، علاوةً على خفّة دمها الفطرية التي خلقت الضحك والسعادة في أنفسنا بدرجات كبيرة، ولم تتركنا إلا مع مستويات عالية من الطاقة الإيجابية وجرعات السعادة التي ستستمر لوقتٍ زمني طويل، ومن المهم الإشارة إلى استمرارية هند في كسر الجدار الرابع عبر تركها للمحيط وحديثها مع المشاهدين كلما دعت الحاجة إلى ذلك ملغيةً فكرة التلقي فحسب وناقلةً إياهم لمرحلة المشاركة وإبداء الرأي. ولقد رافقتها في هذا الأمر القديرة (سوسن بدر) وهي الوحيدة التي انتقلت مع ابنتها من مسلسل (عايزة أتجوز)، والذي لا أرى بأنه من المناسب مقارنته مع العمل الراهن لاختلاف الزمان والمكان اللذين فرضا بالضرورة تغيراً جذرياً في القصة، وبالعودة لأم علا نرى بأن سوسن استمرت في انسجامها الروحي مع هند، فامتازت بالذكاء والسماحة والعذوبة في تأديتها لشخصية الوالدة التي تنقل مفهوم (توارث الأفكار والقيم من جيل إلى جيل مع الحرص على تفعيلها وترسيخها بغض النظر عن رغبات الابنة، فما تريده هو الصواب وهو ما ينبغي أن يحصل من أجل الوصول للصورة الاجتماعية المنشودة في مجتمع منافق بغالبية أفراده)، وهو الأمر الذي استيقظت منه علا أخيراً خارجةً نحو النور لتكتشف كم تحملت من أذى سببه المجاملات عديمة الفائدة والقولبة في نماذج مجهّزة لها مسبقاً، وساعدتها من دائرتها القريبة صديقتها نسرين التي أدّت دورها ببراعة (ندى موسى) المحافظة على منسوب البساطة والتلقائية اللذين يعنونان المسلسل برمّته. وهذا يقودنا لركيزة المسلسل وهو النص، المستند على شخصيات مرسومة بقلم غادة عبدالعال، والمصاغ وفق سيناريو وحوار مها الوزير التي أبدعت سابقاً في كلٍّ من: (لعبة نيوتن)، و(هذا المساء)، فخرجتا بمسلسلٍ بعيدٍ عن المبالغة والابتذال من جهة ومناسب لكلٍ أفراد الأسرة من جهة أخرى، وقابل لتطبيق نظريات علم النفس عليه من جهة ثالثة. لقد تمّ الاهتمام بالحوار كي يكون مشابهاً لحياتنا وتمّ تفعيل الكوميديا الخفيفة مع الدراما بدرجات مدروسة، بالإضافة إلى عنونة الحلقات بفرادة تعكس المضمون مباشرة، ليفوق بذلك التوقعات التي سبقت عرضه بأشهر، ويتحول إلى (تريند) في مختلف دول العالم، دون التخلي عن ذكاء النهاية المفتوحة على جزء ثالث يمكن أن يكون بعد عام أو أكثر أو لا يكون بالأساس. ولعلّ أهم ما ميّز (البحث عن علا) هو إمكانية تطبيق الأفكار التي تم التوصل إليها في أبحاث ودراسات علم النفس، فمن ناحية علمية يمكن أن نسأل أنفسنا: ماذا يحصل عندما تتخذ فتاة ما قراراً خاطئاً بالارتباط برجلٍ معين بناءً على قواعد الشكليات الاجتماعية الخالية من التفكير بتوابع هذا الارتباط في المستقبل القريب أو البعيد؟ وكيف لمن تورطت في مثل هذا الخطأ أن تتعامل مع صدمة الزواج بإنسان نرجسي تمّت تربيته على أساس أنه محور الكون؛ وبالرغم من شخصيته المملة والروتينية إلّا أنه عكس الأزمة الصحية التي تعرّض إليها في سنٍ مبكرة سلباً على الشريكة بطريقة قاسية ومجحفة تمثّلت بالطلاق؟ إذاً نحن أمام صدمة عولجت بصدمة أخرى تعاطت صاحبتها مع نتائج الأمر أولاً بنكران الفاجعة، ومن ثم التهور وردود الأفعال الهستيرية والدخول في علاقات غير مستساغة مجتمعياً وعيش تفاصيل الحرية التي حرمت منها طويلاً والرد على الأذى بأذى مشابه، وثالثاً بمحاولة إثبات الذات والتعافي من مسببات الألم بالسعي وراء النجاح والإيمان بأنّ قيمتها الحقيقية مستمدة من داخلها، وأخيراً الفراغ والضياع والاستمرار بالوحدة والخوف من تكرار تجارب جديدة. أمّا بقية الشخصيات فهي كذلك الأمر تعكس نماذج نفسية واضحة، فهشام يعيش بمراهقته المتأخرة أزمة منتصف العمر. يكيل بمكيالين، وينقل الطاقات السلبية بوعي وأنانية للطرف الآخر، ومروان يكبت الأوجاع ويهرب نحو العمل ويمتلك الوفاء الكامل لزوجته الراحلة التي يشعر نحوها بعقدة ذنب كبيرة، وفي الوقت عينه يعلم أن دواءه لدى علا التي يعدها بالانتظار. بالمحصلة تحققت المتعة مع (هادي الباجوري) بكادراته وألوانه ومدرسته المميزة جنباً إلى جنب مع (خالد القمار) بالموسيقى التصويرية التي صاغها بفخامة، ناهيك عن الأغاني المرافقة للمَشاهد بتناسب واحترافية، واستقبال ضيوف شرف مهمين: (يسرا وشيرين رضا وخالد النبوي وفتحي عبدالوهاب وعمرو صالح ودينا) (مع حفظ الألقاب) الذين تفاجأنا بظهورهم بطريقةٍ رفعت من سوية عملٍ لم يتجاهل الطبقة المتوسطة ولم يروّج للطلاق كما ادّعى البعض، ولم يعتمد على (الإيفيهات) مباشرة، وأشار إلى خطورة تطبيقات المواعدة، وسلط الضوء على سلبية المجتمع المزيف، وقدّم وصفة سريعة الأثر للمحافظة على صحتنا النفسية.